ككل فتى كبر ونشأ في ثمانينات القرن الماضي في بيروت يوم لم يكن هناك انترنت ولا هاتف ذكي، كان التلفزيون هو الساحر الذي يتحلق حوله أفراد الأسرة يتابعون برامجه التي تبثها القناة الوحيدة الرسمية التابعة للدولة. من تلك البرامج والمسلسلات كنا نستلهم مخيلتنا وأحلامنا والمثل العليا التي نقتدي بها.
كان زمناً جميلاً فيما قدمه لنا ثلة من الممثلين الذين تميزوا بالأداء العفوي الجميل والبساطة والطيبة، ومن الطبيعي ان يكون لكل منا بطله المفضل الذي يرى فيه ما يمثله. هكذا كان بالنسبة لي أبو عبد البيروتي، بطربوشه وقمبازه وخيزرانته (عصا نحيفة)، إنه ابن مدينتي بيروت إنه القوي في نصرة الضعيف واللطيف في العفو عند المقدرة، إنه الشهم في أخلاقه والنبيل في أصالته، هكذا عرفته وهكذا نجح في أن يقدم لنا تلك القيم من خلال الأدوار التي كان يجسدها على الشاشة الصغيرة في مسلسلات لعب فيها دور البطولة الأولى أذكر منها مسلسل “أبو عبد البيروتي”، ومسلسل “فوت يا خال الباب بلا غال”، ومسلسل “الحكواتي”، إضافة إلى مسلسلاته الإذاعية التي أذكر منها “عيش كتير بتشوف كتير”، كان هو القبضاي (تعني الجدع باللهجة البيروتية)، الذي كانت عباراته تصدح ولا تزال ترن في أذني: باطل خبر عاطل، أو فوت يا خال الباب بلا غال، (أي أدخل يا ابن الأخت الباب بلا أقفال). لقد جسد في مخيلتي ومخيلة كل أبناء ذلك الجيل الذي تابعه الطباع الأصيلة والصدق والأخلاق الراقية، وكان مثالاً للزمن الجميل الذي ذهب ولم يعد.
لم أكن أعرفه سوى باسمه الشهير أبو عبد البيروتي، وسعيت لمتابعة أي عمل فني يؤدي فيه دورا أو يظهر فيه ضيف شرف. كان يقول لي والدي إن أبا عبد في الحقيقة إلى جانب عمله في التمثيل يعمل ضابطاً في إطفائية بيروت، وأنه كان دائماً يلقي عليه السلام كلما مر بجانب الإطفائية. كم تمنيت وأنا فتى يافع أن أقابله وجها لوجه وأعبر له عن مدى إعجابي به. شكل مسلسل المعلمة والأستاذ الذي عرض في التسعينات من القرن الماضي محطة مهمة في مسيرة بطلي المفضل أبو عبد البيروتي، الذي أدى فيه دوراً بارزاً ويومها فقط عرفت ان اسمه الحقيقي هو أحمد خليفة.
وفي أوائل التسعينات كان القدر يخبئ لي ما لم أكن أتوقع أن يتحقق، فبعد أن أنهيت دراستي الجامعية التحقت مذيعا ً بإحدى أهم الإذاعات التي كانت تبث من بيروت، صوت الوطن. هناك التقيت لأول مرة بالقبضاي الذي يمثلني تفاجأت يوماً وأنا أدخل الاستديو لتقديم نشرة الأخبار بذلك الشهم الذي تابعت أعماله على شاشة التلفزيون واقفاً أمامي وألقى علي التحية وسألني إن كان المخرج قد وصل، لم أصدق يومها عيناي، ماذا يفعل هنا؟ صافحته وقدمت نفسي وتبادلنا أطراف الحديث وعرفت بعدها أنه يشارك في مسلسلات إذاعية تنتجها الإذاعة التي بدأت عملي فيها منذ أيام قليلة. ثم تكررت اللقاءات بيننا وتوطدت علاقتنا ونشأت بيننا صداقة حميمة، بناء عليها اقترح أبو عبد على المخرج الأستاذ الكبير عمر ميقاتي (حفظه الله) أن يعطيني أدواراً في المسلسلات التي يشارك فيها، وهكذا كان. والفضل لصديقي أبو عبد في فتح باب التمثيل الإذاعي أمامي والذي ما زلت أمارسه حتى يومنا هذا.
توالت الأيام وصرت أقترح على صديقي أبو عبد أن يزورني في بيتي لنراجع معا أدوارنا التمثيلية قبل يوم من التسجيل، وأصبح صديقاً لوالدي وفي كل مرة كان أبو عبد يزورنا كان يترك من طيب أثره في نفوسنا الكثير. كان يتبادل مع والدي ذكريات زمن بيروت الجميل، وكان يشرفنا بإسماعنا مقتطفات من أدائه كحواتي يسرد بعضا من مواقف عنترة بن شداد، وكعادته في بث روح النكتة أذكر أنه تناول موقفا لتلك الشخصية المحببة فقال: كان عنترة في ساحة المعركة إذا مال على اليمين مسح، وإذا مال على الشمال كسح، ثم توقف أبو عبد عن السرد والتفت الينا وقال بلكنته الساخرة: إيه عم يمسح غبرة!
رحمك الله أيها الفنان الكبير والصديق الحبيب، والرجل الشهم، أحمد خليفة، أو أبو عبد البيروتي كما عرفتك وكما عرفك الناس، يا من دخلت قلوبنا ووجدان كل رجل صالح، من خلال دخولك بيوتنا عبر شاشة التلفاز أو أثير الإذاعة. عرف عنك من عمل معك في إطفائية بيروت البطولة والشجاعة والتفاني لما بذلته من تضحيات في إنقاذ أرواح بريئة في زمن الحرب الأهلية البشعة، وإصرارك على البقاء في مركز عملك وحيداً مع قلة من رجال الإطفاء أثناء حصار بيروت في زمن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
في ذكرى رحيلك الثالثة عشرة نتطلع إلى أن يتحقق تنفيذ تكريمك الموعود بتسمية إطفائية بيروت باسمك، بعد أن صدر القرار الرسمي بذلك من محافظة وبلدية بيروت ووزارة الداخلية ولا يزال ينتظر التنفيذ منذ عام 2019 شأنه شأن كثير من القرارات المعطلة في بلد لا نعرف اين يكمن التعطيل فيه، كذلك ننتظر أن يكون لك شارعاً باسمك، ومدرسة أو معهداً باسمك وهذا أقل ما يمكن أن توفيك إياه الدولة من حقك، لقاء عطائك على مدى أكثر من خمسين عاماً من الإنجازات في المسرح والإذاعة والتلفزيون.
أيها الكبير أحمد خليفة – أبو عبد البيروتي، أمثالك لا يموتون، لأنهم أحياء عند رب كريم، وفي وجدان كل المحبين والمخلصين.
وإلى اللقاء يا صديقي في جنات النعيم.
الصحفي: رائد البدوي