في مفارقة تدعو للرثاء، يستعد البرلمان الفرنسي لمناقشة مقترح قانون يجرم تداول صور مسيئة للشرطة بوسائل التواصل الاجتماعي، بالمقابل يُشجع الرئيس إيمانويل ماكرون، نشر الصور المسيئة للرسول محمد (ص) على واجهات العمارات، بحجة الدفاع عن حرية التعبير.
وهذا التناقض بين تجريم الصور المسيئة لضباط الشرطة والدرك الفرنسيين، وبين الإمعان في إهانة وازدراء المسلمين ومقدساتهم، يؤكد أن الصور المسيئة للرسول (ص)، كانت لأغراض انتخابية، وعداء “فاشي” ضد الإسلام، ولم يكن الأمر متعلقا بحرية التعبير.
فنقابة الشرطة الفرنسية النافذة، تضغط بشدة ومنذ زمن على الحكومة وأعضاء البرلمان، لاعتماد قانون يحميها من الصور والفيديوهات، التي تصفها بـ”المسيئة” لها، أثناء الخدمة، والتي يتداولها ناشطون عبر شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصا خلال احتجاجات “السترات الصفراء” بين 2018- 2019.
** إزالة مصدر إدانة لتجاوزات الشرطة
لكن 30 عضوا في جمعية الصحافيين الفرنسيين، نشروا رسالة مفتوحة في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، اعتبروا فيها مشروع هذا القانون المعروف بـ”الأمن العام”، بأنه “تهديد لحرية التعبير”.
ويثير مقترح هذا القانون قلق وغضب الناشطين الإعلاميين والحقوقيين، لأنهم يعتقدون أنه من شأنه تعزيز إفلات مرتكبي العنف من أفراد الشرطة من العقاب، بل ويسمح لهم “بإخفاء انزلاقاتهم وتجاوزاتهم”، و”إزالة مصدر أدلة مهم أثناء ارتكابهم للقمع”.
ونقل موقع “غرينبيس”، عن صحفيين ووسائل الإعلام في أحد المنتديات قولهم إن “إمكانية تصوير وبث صور للشرطة أمر ضروري لسيادة القانون، وحرية الصحافة كسلطة مضادة ضرورية للديمقراطية”.
وأضافوا “بدون هذه الأدوات، وبدون أولئك الذين يوقفونهم، ما مقدار عنف الشرطة الذي تم تجاهله؟ (…) من كان قد سمع عن جينيفيف لُغاي، الناشطة السلمية البالغة من العمر 73 عامًا، التي أصيبت بجروح خطيرة في رأسها، خلال اعتداء عنيف لا يصدق من الشرطة؟”
** الهروب من “شرف الكاميرا”
والأمر لم يقتصر فقط على الصحافيين المعنيين بشكل مباشر بتغطية الأحداث التي تكون الشرطة طرفا فيها، بل إن 800 من منتجي الأفلام والمصورين قالوا إن مشروع قانون “الأمن العام”، يرقى إلى مستوى “الرقابة”.
وأعطوا مثالا عن فيلم وثائقي بارز يصور عنف الشرطة خلال احتجاجات “السترات الصفراء”، ويحمل عنوان “بلد يحافظ على نفسه”، واعتبروا أن هذا الوثائقي ما كان سيبث لو كان هذا القانون موجودا.
وعلق الاتحاد الوطني للقضاء الفرنسي، على هذا المقترح بأن الشرطة ستكون الوحيدة التي يحق لها أن “تهرب من شرف الكاميرا”.
كما أن منظمة العفو الدولية، حذرت من أنه إذ أقر القانون، فإن الحكومة الفرنسية ستنتهك ميثاق الأمم المتحدة الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، الذي يحمي حرية التعبير.
القانون الأمني الجديد يقترح حظر النشر لصور أفراد الشرطة والدرك “خلال أداء مهامهم في حفظ النظام العام”، ويفرض عقوبات ثقيلة تصل إلى السجن لعام كامل، وغرامة قدرها 45 ألف يورو.
** الأغلبية البرلمانية ضد حرية التعبير
وسيعرض مقترح قانون “الأمن العام”، الذي قدمه حزب “الجمهورية إلى الأمام”، الذي أسسه ماكرون، على الجمعية العمومية (الغرفة الأولى للبرلمان) للنقاش ما بين 17 و20 نوفمبر الجاري.
ويحظى هذا المقترح بدعم الحكومة وتحالف الأحزاب المؤيدة لها في البرلمان، مما يعني أن اعتماده مسألة وقت فقط، رغم معارضة الصحافيين والمنظمات الحقوقية بل وحتى القضائية له.
ولا يبدي ماكرون أي حرج في اعتماد قانون يعتبره إعلاميو بلاده ضد حرية التعبير والصحافة، بالرغم من أنه يدافع بشراسة على حق صحيفة “مفلسة” في نشر صور كاريكاتورية مسيئة للرسول محمد (ص).
بل الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بعدما تم تعليق هذه الصور المسيئة على واجهات العمارات، والتحقيق مع تلاميذ مسلمين بشأن موقفهم من هذه الصور، والتلويح بنشرها في المقررات المدرسية.
** سجل فرنسا القاتم
يحاول ماكرون، عبر مشروع قانون يتم إعداده حول ما أسماه “الإسلام التنويري” و”محاربة الانعزالية الإسلامية”، تكوين أئمة فرنسيين يتقبلون فكرة الإساءة لنبيهم، على أنها حرية رأي، كما يسعى لتقليص تأثير الأسر الفرنسية المسلمة في تربية أبنائها وفق معتقداتهم وثقافتهم الخاصة.
لكن سياسة ماكرون، التي تحاول التضييق على حرية المسلمين في أكلهم ولباسهم ومعتقداتهم، توشك أن تنقلب ضد بقية الفرنسيين، بداية من الصحافيين والناشطين الحقوقيين، الذين رفع لواء الدفاع عن حريتهم عندما تعلق الأمر بصور مسيئة للرسول الأكرم.
إذ تتجه الحكومة الفرنسية نحو تشديد سياستها القمعية ضد حرية الرأي والتعبير والتظاهر، بل وحتى المعتقد.
فمنظمة العفو الدولية، وصفت سجل فرنسا في حرية التعبير بأنه “قاتم”. مشيرة إلى أنه في كل عام يُدان آلاف الأشخاص بتهمة “ازدراء الموظفين العموميين”.
وخلصت المنظمة غير الحكومية إلى أن “الحكومة الفرنسية ليست نصيرة حرية التعبير كما تزعم، ففي 2019، أدانت محكمة فرنسية رجلين بتهمة الازدراء، بعد أن أحرقا دمية تمثل الرئيس ماكرون خلال مظاهرة سلمية”.
فازدراء الرئيس الفرنسي تهمة يعاقب عليها القانون، وازدراء ديانة يعتنقها أكثر من 10 بالمئة من الفرنسيين، ومليار ونصف مليار شخص في العالم مسألة حرية رأي.
وبهذا التناقض في تفسير حرية التعبير والرأي، يكون ماكرون قد وضع فرنسا كلها في أزمة.