قال أنس بن مالك رضي الله عنه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) .
وامتدح الله سبحانه وتعالى الأنصار في أكثر من آية، وامتدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ثبت عنه عليه أفضل الصلاة والسلام أنه رأى امرأة مقبلة، فقال: (ممن هذه المرأة؟ قالوا: من الأنصار، قال: والله الذي لا إله إلا هو! إنهم لمن أحب الناس إلي) ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة التوبة: “لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117] فجعل الأنصار بعد المهاجرين.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ فِي النَّاسِ فِي المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي» كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: «مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ». قَالَ: كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: «لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ، لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ».
وفي رواية عند الإمام أحمد: فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وَتَفَرَّقُوا.
جب النبي للأنصار
مواقف صعبة وشائكة، من بينها هذا الموقف الذي استرضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات رقيقة كشفت عن معدن الأنصار، بعد أن امتص غضب الغاضبين ووجد الواجدين، وفي هذا المشهد بعد غزوة حنين وما أفاءه الله على المسلمين من الغنائم، فإذا برسول الله صلى الله عليم وآله وسل يعط كل الفيء للمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئًا، هنا تثور ثائرة الوجد والغضب في أنفسهم إذ لم يعطوا كما أعطي الآخرون، فهنا يذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنعمه عليهم، خاصة النعم التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بابًا لها، فيبدأ صلى اللليه وآله وسلم بنعمة الإيمان، وَلَا شَكَّ أَنَّ نِعْمَةَ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ النِّعَمِ، بِحَيْثُ لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ الْأُلْفَةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الْأَمْوَالِ؛ إذْ تُبْذَلُ الْأَمْوَالُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْصَارُ فِي غَايَةِ التَّبَاعُدِ وَالتَّنَافُرِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ قَبْلَ الْمَبْعَثِ؛ مِنْهَا: يَوْمُ بُعَاثٍ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ الْغِنَى وَالْمَالِ.
وَفِي جَوَابِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِمَا أَجَابُوهُ من قولهم: “اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ” اسْتِعْمَالُ الْأَدَبِ، وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ الَّذِي خاطبهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندئذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم: «لو شئتُم لقلتُم: جئْتَنا كذا وكذا»، وفي لفظ: أنه قال: «واللهِ! لو شئتمُ لقلتُمْ فصدقْتُمْ وصُدِّقتُمْ، جئتَنا طريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناكَ، وخائفًا فآمناكَ، ومخذولًا فنصرناك، ومكذَّبًا فصدَّقْناك»، وهو الذي كنى عنه الراوي بكذا وكذا؛ تأدُّبًا، وفي ذلك جبرٌ للأنصار، وتواضعٌ وحسنُ مخاطبة ومعاشرة منه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقولهم: “المنُّ لله ورسوله” تمامُ الأدب رضوان الله عليهم.
مناصرة ومجاورة ومعاشرة الرسول
ثم يذكرهم عليه الصلاة والسلام بالفضيلة الكبرى والمنة العظمي بفوزهم بمناصرة ومجاورة ومعاشرة رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم في مقابل متاع قليل وحقير من عَرَض الدنيا، فيقول لهم تلك العبارة المثيرة والمؤثرة: «ألَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ».
ثم لا يغفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المناسبة بيان فضائل الأنصار؛ بقوله عليه الصلاة والسلام: «لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ»، ولا شك أن هذا بيان واضح وإشارة عظيمة بفضيلة الأنصار.
ثم يراها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرصة لكي يؤثرهم بإعلامهم بأمر سيحدث في المستقبل من الأثرة واستئثار الناس عليهم بالدنيا، ويرشدهم إلى الصبر في تلك الحالة حتى يصلوا إلى بر الأمان بلقيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحوض، هذه اللُّقيا التي أثبتها لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزاء نصرتهم له وقناعتهم بالله ورسوله، فكان المقام مناسبًا لتلك البشرى العظيمة لهم.
وهنا يتقبل الأنصار البشرى ويؤكدون على مواقفهم الثابتة من الرضى بالله ورسوله عن كل شيء؛ فيبكون حتى يملأ لحاهم بللُ البكاء، ويقررون في عبارة رصينة وحاسمة: “رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قِسْمًا وَحَظًّا”.
وانظر هنا كيف تحول الموقف -بحكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحسن الموعظة النابعين من معين النبوة وأنوارها التي لا ينضب لها معين- من قمة الغضب والاستثارة ونزغ الشيطان لبني الإنسان، إلى قمة الرضا وهدوء النفس وذكر الفضائل والاعتراف بالجميل، لقد تحول الموقف من النقيض إلى النقيض، وهذه هي أنوار وبركات سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم.