ما بين الضيق الذي نشعر به حينا، وبين التيه الذي ندخل فيه حينا أخر، تتكالب علينا المشكلات والأهوال، بسبب الظروف التي يحيا فيها المسلمون اليوم من ظلم واضطهاد، وتعذيب، في كل شبر في الأرض، وقد جعل الله عز وجل لنا في سيرة الأنبياء والصالحين ما نلوذ به ونفر إليه لكي نتحمل آلام ما نواجه كل يوم، ومن أفضل ما نقرأ في هذه السير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته، خاصة في مواجهة الأزمات وأذى المشركين وتكالب الأعداء، وذلك في نموذج واحد من هذه النماذج التي أوذي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وهي غزوة مؤتة.
ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف
تصور أن يقف ثلاثة آلاف مسلم أمام مائتي ألف من الروم وأحلافهم يتقاتلون!! ربما تندهش حينما تسمع الرقم، وربما لا تصدقه، ولكن تصور واقعه على المسلمين المشاركين في هذه المعركة أنفسهم وهم يعلمون أنهم بأعدادهم القليلة سيواجهون تترا من البشر لاحصر ولا عد لهم، ولكن لا عجب! فإذا كان الله عز شأنه مالك الملك ورب الأرباب مع المسلمين فمن يهزمهم؟! وممن يخافون والناصر هو الله؟!.
بالعودة إلى سيرته صلى الله عليه وسلم؛ نستفيد منها في جهادها، وصبرها، وثباتها، يقول الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21] (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
فبعد صُلْحِ الحديبية تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته؛ فبعث الرسل إلى الملوك والولاة في شمال الجزيرة وغربها، وجنوبها وشرقها، يدعوهم إلى الإسلام ، وكان من بين هؤلاء الرسل: الحارث بن عُمَيْرٍ الأزدي –رضي الله عنه- الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى هرقل الروم بالشام، وخرج الحارث بالرسالة، فلما نزلَ مؤتة في شمال الجزيرة العربية عرض له عاملُ قيصر على الشمال؛ شرحبيل بن عمرو الغساني، فأوثقه رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه ليموت شهيداً –رضي الله عنه وأرضاه-.
وهدد شرحبيل المسلمين في المدينة بأن يرسل إليهم جيشاً عظيماً لا طاقة لهم به، يؤدبهم ويعرفهم سوء صنيعهم، حتى يعلموا أن لا طاقة لهم بحرب الروم؛ القوة العظمى في ذلك الزمان.
فبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابه همَّ عظيم لقتل رسوله، إذْ كان الحارث –رضي الله عنه- الرسول الوحيد من بين رسله الذي تعرض للقتل والأذى، وكانت الرسل لا تُقتل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وجمع المسلمين، وأخبرهم الخبر، ثم جهز جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لغزو مؤتة؛ انتصاراً لهذا الصحابي الجليل الذي قُتل؛ لأنّ دم المسلم في الإسلام نفيسٌ.
جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشه ، وعزم على الرحيل، وعقد لهم لواءً أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، وأمره عليهم، ثم قال: “إن أصيبَ زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس”، وأوصاهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هنالك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله سبحانه وتعالى وقاتلوهم. ثم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: “اغزوا بسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليداً، ولا امرأةً، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموا بناء”.
تهيأ الجيش للخروج وودعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فبكى عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه-، فقالوا: ما يُبكيك يا ابن رواحة؟ قال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صابةٌ بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله تعالى، يذكر فيها النار، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) [مريم:71 ]، فلست أدري والله كيف لي بالصدر بعد الورود.
ثم قال:
وخرج الجيش من المدينة، في جمادى الأولى، وخرج معهم النبي صلى الله عليه وسلم في مجموعة من أصحابه –رضي الله عنهم-؛ مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، ثم ودعهم والدموع تفيض من عينيه، وكان آخر من ودعه عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه-؛ ودعه مجهشاً بالبكاء، وهو يقول:
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
ونزل جيش المسلمين أرض مُعَانَ بالشام، فبلغتهم الأخبار بأنّ هرقل ملك الروم قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألفٍ من الروم، وانضم من نصارى العرب: لخم وجُذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف أخرى، يقودهم مالك بن زالفة النصراني. فلما علموا بذلك أصابهم من الغم والحزن ما الله به عليم.
فاجتمع المسلمون، وتشاوروا في أمرهم، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في الأمر، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونخبره بعدد عودنا، وما أعدوا لنا، فإما أن يُمددنا من عنده، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
فقال عبد الله بن رواحة يُشجع الناس، ثم قال: “أيها الناس! والله إنّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ يعني الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور،وإما شهادة”.
ارتفعت معنويات المسلمين ومضوا لقتال عدوهم في سبيل الله، حتى نزلوا مؤتة بأرض الشام، وكان الروم قد نزلوا قرية مجاورة لمؤته يقال لها مشارف. واقترب الفريقان، والتقى الجمعان، وبدأت المعركة، واعتصم المسلمون بالله والواحد الأحد؛ الذي يجيب دعوة المطر إذا دعاه، ويكشف السوء، فيقول الله تعالى (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:66].
أخذ الراية زيد بن حارثة أول الأمراء الثلاثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبُّه، فقاتل قتالاً مريراً، وكان مثالا في الشجاعة، وبينما هو كذلك أصابه رمُحٌ من رماح الأعداء، فخر شهيداً، رضي الله عنه وأرضاه.
فتقدم جعفر بن أبي طالب، واستلم الراية، ودافع عنها كدفاع صاحبه، وهو يقول:
فلما اشتد القتال نزل جعفر – رضي الله عنه- عن فرس له شقراء فعقرها، ثم تقدم يقاتل، فقطعت يده اليمني، فاستلم الراية بيده اليسرى، فقطعت، فاحتضنها بعضديه؛ لئلا تسقط راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينهزم المسلمون. فلم يزل رافعاً لها حتى ضربه رومي ضربةً قطعته نصفين.
روى البخاري عن نافع عن ابن عمر قال: “فالتمسنا جعفراً، فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعتاً وتسعين طعنة ورمية، وكانت كلها فيما أقبل من جسده”.
ثم تقدم الأمير الثالث عبد الله بن رواحة، فاستلم الراية، وكاد أن يرجع وتردد بعض التردد، ثم ارتجز بأبيات جميلة، وتقدم وهو يقول:
ثم نزل للقتال، فأتاه ابن عم له بعظم من لحم، وقال: اشدد بهذا صلبك؛ فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه منه، وانتهس منه نهسةً، ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه، وقاتل حتى قتل –رضي الله عنه-.
ومات الأمراء الثلاثة، استشهدوا جميعاً. وارتبك الناس، واختلطوا، فتقدم ثابت بن أرقم العجلاني، وأخذ الراية، وقال: “يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجلٍ منكم”. قالوا: أنت! قال: “ما أنا بفاعل”، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد –رضي الله عنه-، ولم يمضِ على إسلامه خمسة أشهر بعد، فقد أسلم بعد الحديبية، ولكنها الرجولة التي قال الله تعالى عنها: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].
استلم القيادة خالد بن الوليد، فنظم الجيش إلى ميمنةٍ وميسرة ومقدمة ومؤخرة، وهجم على الروم، فلما رأوا هذا المشهد في الجيش المسلم قذف الله في قلوبهم الرعب، وقالوا: قد جاء المسلمين مدد من المدينة، فاستطاع خالدٌ –رضي الله عنه- بهذه الخطة الحربية أن يُخلص الجيش المسلم من عدوه، وأن يُحقق النصر المعنوي العظيم للقلة المسلمة.
روى البخاري وغيره أنّ خالد بن الوليد –رضي الله عنه-: قال: “لقد انقطعت في يدي يوم مؤته تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحةٌ يمانية”.
وانتهت المعركة، وعاد المسلمون ينعمون، (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم:5].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة يُشاهد المعركة عن طريق الوحي الذي تنزل به جبريل –عليه السلام-، فجمع المسلمين، وأمر منادياً يُنادي فيهم، فاجتمعوا ثم أخبرهم عن إخوانهم المجاهدين، فقال: “أخذ الراية زيدٌ فقال حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفرٌ فقاتل حتى قتل شهيداً”، ثم صمتَ صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوهُ الأنصار، وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، فقال: “ثم أخذها عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قُتل شهيداً”. ثم قال: “لقد رُفعوا إليَّ في الجنة فيما يرى النائمُ على سرير من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلتُ: بم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد بعض التردد، ثم مضى. ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله؛ يعني:خالد، حتى فتح الله عليهم”. رواه أحمد.
وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان بالدموع يتفقد أُسر الشهداء الثلاثة.
بقلم | أنس محمد