مر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الصعاب الشديدة في طريق الهجرة، بدءا من وعورة الطريق بين مكة والمدينة ومشقته بالجبال والتضاريس القاسية، ومرورا بملاحقة المشركين له لمنعه من الهجرة وقتله صلى الله عليه وسلم، ونهاية بالمخططات التي كانت تحيك بمنع هجرته لعدم اكتمال دعوته ونشرها، وإذا كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها والمكان الذي وقعت فيه، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا أشرف مكانا وأعظم من مكة والمدينة.
لذلك غيرت الرحلة المباركة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، التاريخ الإنساني، ونقلته من الظلمات إلى النور،، وحملت في طياتها معاني التضحية والصحبة، والصَّبر والنصر، والتوكل على الله، لذلك كانت ثمرة هذه الرحلة هي النجاح بعد أن سخر لها الله من جنوده من كان عونا للنبي صلى الله عليه وسلم في نجاحها، وتحقيق نصرته، قال الله تعالى: { إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(التوبة:40) .
جنود الهجرة المباركة
عرفت قريش بعد فوات الأوان أن الله سبحانه وتعالى أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وبينما هم يحيكون مؤامرتهم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد غادر بيته في ليلة السابع والعشرين من شهر صفر السنة الرابعة عشر من النبوة وأتى إلى دار أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته، ليخبره بأمر الخروج والهجرة، ليكون أبو بكر الصديق هو قائد اللواء الأول في الدفاع عن الرحلة ونيل شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ليكون الرفيق في الطريق والعون في الشدة.
فكيف كان أبو بكر أول جنود هذه الرحلة؟
كان أبو بكر الصديق يحلم بشرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وخشي أبو بكر أن يُحرم شرف صحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فاستأذن في صحبته فأذن له، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة، حتى أذن له النبي صلى الله عليه وسلم وبشره بشرف صحبته.
عبد الله بن أريقط
كان عبد الله بن أريقط من معجزات الهجرة النبوية الشريفة، حيث سخره الله رغم كفره وشركه ليكون دليل النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه للمدينة مع أبي بكرالصديق، بعدما استأجره أبو بكر من بني الديل وكان يُقال عن عبد الله بن أُريقط خرّيتا( ماهرا وعارفا بالطريق)، ودفع أبو بكرالصديق إلى عبد الله بن أريقط الراحلتين ليرعاهما، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ.
عائشة بنت أبي بكر
جعل الله عز وجل للسيدة عائشة شرف المشاركة في الرحلة من خلال تجهيز المؤون والمتاع الذي سيحتاج إليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الرحلة المباركة.
أسماء بنت أبي بكر
كان لأسماء بنت أبي بكر دور عظيم في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنها نالت لقبها “ذات النطاقين” من خلال مشاركتها في التجهيز للهجرة، لتكون علامة مميزة في نسج قصتها ويقترن اسمها بهذه الرحلة العظيمة، فقد شاركت عائشة أختها بتجهيز المتاع والمؤن، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لوضع الطعام فيه، فسمّيت من يومها بذات النطاقين، وكان لها دور عظيم مع شقيقها عبد الله في توفير كل ما يحتاج النبي في رحلته، وإمداده بالمؤن ونقل الأخبار إليه من مكة.
ولمعت في سماء الهجرة أسماء وعائشة حيث كان لهن فضل كبير في تموين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، كما روى ابن إسحاق وابن كثير في السيرة النبوية أنها قالت: ” لما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر – رضي الله عنه – أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟، قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا ” .
فهذا درس من أسماء ـ رضي الله عنها ـ تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة أمام قوى البغي والظلم .
علي بن أبي طالب
عرف النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بالصادق الأمين قبل إعلان نبوته الشريفة، وإذا كان ذلك هو دأب النبي ودينه قبل البعثة وقبل الهجرة، فكيف يكون بعد أن نزلت عليه الرسالة الشريفة؟.
لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من عظم التجهيز للرحلة المباركة في هجرته الشريفة، ما عليه من أمانات لأهل مكة، بالرغم مما لقاه منهم، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة .
ثم غادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ من باب خلفي، ليخرجا من مكة قبل أن يطلع الفجر.
ولما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور.
عامر بن أبي فهيرة وعبد الله بن أبي بكر
كان عامر بن فهيرة وعبد الله بن أبي بكر هما العينان الذان تحرسان النبي صلى الله عليه وسلم وتنقلان له ما يخطط إليه المشركون في قريش، وكانا هما الجنديان الذان يمدان النبي وصاحبه بالمؤن والمتاع الذي تجهزه أسماء وعائشة رضي الله عنهن.
سراقة بن مالك
انطلق المشركون في آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، يرصدون الطرق، ويفتشون في جبال مكة، حتى وصلوا غار ثور، وأنصت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه إلى أقدام المشركين وكلامهم .
يقول أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : ( قلت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا في الغار : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) رواه البخاري .
ومكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه في الغار ثلاث ليال حتى انقطع عنهم الطلب، ثم خرجا من الغار ليلة غرة ربيع الأول من السنة الرابعة عشر من النبوة، وانطلق معهما عبد الله بن أريقط (الدليل) وعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما فكانوا ثلاثة والدليل .
وعلى الجانب الآخر لم يهدأ كفار قريش في البحث وتحفيز أهل مكّة للقبض على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه أو قتلهما، ورصدوا مكافأة لمن ينجح في ذلك مائة ناقة، وقد استطاع أحد المشركين أن يرى النبي – صلى الله عليه وسلم – من بعيد، فانطلق مسرعاً إلى سراقة بن مالك وقال له : يا سراقة، إني قد رأيت أناساً بالساحل، وإني لأظنّهم محمداً وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هُم، فأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق فسقط مرة ثانيةً، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته مخاوفه، فحاول مرة أخرى فغاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم، وكتب له النبي – صلى الله عليه وسلم – كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحداً يبحث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أمره بالرجوع، وكتم خبرهم .
أم معبد
في طريق النبي وصاحبه إلى المدينة نزل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه بخيمة أم معبد، فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن، فأخذ النبي – صلى الله عليه وسلم -الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها، ثم حلب في إناء وشرب منه الجميع .