ربما تواجد بعض اللمسات الإنسانية التي تميز إنسانًا عن أخيه، والتي إن دلت فهي تدل على الجهد في طيبة القلب والتفكير في راحة الغير، وتقديم يد العون للناس، والاهتمام بما يصلح أحوالهم ويسعدهم.
ومن النماذج الإنسانية الفريدة، أبو بكر الصديق، الذي كان يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في التفكير في احوال الناس والعمل على إسعادهم.
ما شد انتباه عُمر بن خطاب أن أبا بكر يخرج إلى أطراف المدينة بعد صلاة الفجر ويدخل بيت صغير لساعات ثم ينصرف لبيته.
وكان عمر يعرف كل ما يفعله أبو بكر الصديق من خير إلا سر هذا البيت!.
مرت الأيام ومازال خليفة المؤمنين أبي بكر الصديق يزور هذا البيت؛ ومازال عمر لا يعرف ماذا يفعل الصديق داخله، فقرر عُمر دخول البيت بعد خروجه منه؛ ليشاهد بعينه ما بداخله، وليعرف ماذا يفعل فيه الصديق بعد صلاة الفجر !!.
حينما دخل عمر في هذا الكوخ الصغير، وجد سيدة عجوز لا تقوى على الحِراك ليس لها أحد؛ كما أنها عمياء العينين ولم يجد شيئًا آخر في هذا البيت.
فاستغرب ابن الخطاب مما شاهد؟؟!! و أراد أن يعرف ما سر علاقة الصديق بهذه العجوز العمياء؟!.
سأل عمر العجوز: ماذا يفعل هذا الرجل عندكم ؟ (يقصد أبو بكر الصديق).
فأجابت العجوز: “والله لا أعلم يا بُنى؛ فهذا الرجل يأتى كل صباح وينظف لي البيت ويكنسه ومن ثم يُعد لى الطعام وينصرف دون أن يُكلمنى!”.
ولما مات أبو بكر قام عُمر باستكمال رعاية العجوز الضريرة.
فقالت له: أمات صاحبك ؟!
قال: و مادراكِ ؟
قالت: جئتني بالتمر ولم تنزع منه النوى.
جثم عمر ابن الخطاب على ركبتيه واجهشت عيناه بالدموع وقال عبارته المشهورة :
” لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر “.
ويبين هذا الموقف العظيم لأبي بكر الصديق الذي كان يفكر حتى في أن ينزع النوى من التمر لكي لا يكون هناك جهدا أمام السيدة العجوز الضرير في أن تأكل التمر، يبين هذا الموقف حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ذكره بالفضل وتعليم أصحابه معرفة منزلة أبي بكر .
ففي البخاري :” عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما صاحبكم فقد غامر). فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: (يغفر الله لك يا أبا بكر). ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر، فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حت أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي). مرتين، فما أوذي بعدها ” .
وقد تعلم الصحابة من هذا الموقف عدم إغضاب الصديق ولمقامه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكشف لماذا أتعب أبو بكر الصديق من بعده.
قصة إسلام والد أبي بكر الصديق
تحقق للصديق أبي بكر رضي الله عنه الكثير من الأمور التي لم تتحقق لأحد قبله من الخلفاء، وما من خليفة إلا كان له المنة على ابنه، إلا إأبا بكر، فقد أسلم أبوه على يديه، كما أنه لم يوجد خليفة تولى ابنه الخلافة قبله إلا هو.
وفي تفاصيل قصة إسلام أبي قحافة عثمان بن عامر والد أبي بكر الصديق، أنه لما كان عام الفتح، ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذي طوى، قال أبو قحافة لابنة له، وكانت من أصغر ولده: يا بنية، أشرفي بي على جبل أبي قبيس- وقد كف بصره- فأشرفت به عليه.
فقال: أي بنية ماذا ترين، قالت: أرى سوادًا مجتمعًا كثيراً، وأرى رجلا يشتد بين ذلك السواد مقبلاً ومدبرًا.
ثم قال: ماذا ترين؟ قالت: أرى السواد قد انتشر وتفرق، فقال: والله إذن انتشرت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي، فخرجت سريعًا حتى إذا هبطت به لقيتها الخيل، وفي عنقها طوق لها من ورق، فاقتلعه إنسان من عنقها.
وروي أن بعض المسلمين رمى أبا قحافة فشجّه، وأخذت قلادة أسماء ابنته، فأدركه أبو بكر وهو يستدمي، فمسح الدم عن وجهه.
فلما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المسجد، خرج أبو بكر بأبيه- رضي الله عنهما- يقوده، وكان رأس أبي قحافة اشتعل بياضًا، فلما رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه”.
فقال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه
، فأجلسه بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمسح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صدره.
وقال: أسلم تسلم، فأسلم، ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشدكم بالله والإسلام طوق أختي، فو الله ما جاء به أحد، ثم قال الثالثة فما جاء به أحد، فقال: يا أخية، احتسبي طوقك، فو الله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل.
وحكى أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- هو من أخذ بيد أبي قحافة، فأتى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما وقف به على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: غيروه – أي شعره الأبيض- ولا تقربوه سوادا.
وقد قيل إن أول من خضب شعره في الإسلام، هو والد أبي بكر بعد إسلامه.
زوجة الشهداء وأبي بكر
هي صحابية تميزت بأدبها وحسن خلقها وجمالها ، ووهي مناقب جعلت الكثير من الشباب يتقدم لزواجها ، ولأن الله عز وجل ميزها بأن كل من يتزوجها ينال الشهادة ، فقد جعل كل مشتاق للشهادة يتهافت عليها ويتقدم للزواج منها ، وقد كانت في غاية الإخلاص لدينها ولربها ولكل من تزوجها .
إنها عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ، وهي أخت سيدنا سعيد بن زيد زوج السيدة فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنهم أجمعين ..توفي والدها قبل بعثة الرسول صلّ الله عليه وسلم ، ولكنه دخل الجنة فقد كان من الموحدين على ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وقد رآه الرسول صلّ الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج بالجنة .
الصحابية عاتكة بن زيد بن عمرو سليلة أسرة عريقة في الإسلام فهي شقيقة الصحابي الجليل سعيد بن زيد الذي بشره الرسول بالجنة وابنة عمر فاروق الأمة عمر بن الخطاب كانت من أوائل من أسلموا هي وأخوها سعيد بن زيد ، وقد كانت رحمة الله عليها شاعرة فصيحة تتسم بجمال شديدة وعفة قلما تتكرر .
الصحابية الجليلة اشتهرت بين المسلمين بأنها زوجة الشهداء ، حتى قال عنها عبدالله بن عمر : “من أراد الشهادة فليتزوج بعاتكة” ، ولقد بدأت قصة زواجها وهي في مرحلة الشباب فتهافت عليها الشباب يطلبون زواجها ، ومن بينهم.
كان ابن سيدنا أبي بكر الصديق وهو عبدالله رضي الله عنه ، فتقدم لها ووافقت على الزواج منه وبدأت حياتهم وهم في غاية السعادة ، فقد كان عبدالله بن أبي بكر مشغولًا بها كثيرًا عن أداء باقي أعماله من التجارة وأمور الحرب وغيرها .
سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه مر في أحد الأيام علي نجله عبدالله يريد أن يصحبه إلى الصلاة ، ولكنه سمعه يحدث زوجته بكلام جميل معسول فتركه وذهب ليصلي ، وعندما عاد سيدنا أبي بكر وجده على نفس الحال ، فناداه وقال يا عبدالله أصليت جماعة ؟
عبدالله رد علي والده الصديق متسائلا : أو صلى الناس ؟ فقال سيدنا أبي بكر نعم ؟ لقد شغلتك عاتكة عن الصلاة والتجارة والمعاش يا عبدالله فطلقها ، ولأن عبدالله لم يستطع أن يخالف والده طلقها ، لأنه أدرك مدى تقصيره في حق الله وفي تأدية واجباته ، ولكنه ظل متعلقًا بها وهي أيضًا ندمت لأنها كانت سببا في انشغال زوجها عن طاعة الله عزوجل .
ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد ففي ساعة متأخرة من ليل سمع سيدنا أبي بكر ابنه عبدالله يقول أبياتًا من الشعر تعبرعن ندمه لطلاق عاتكة ، فآمرة سيدنا أبي بكرأن يردها ، فطار عبدالله فرحًا وعاد إليها يراجعها ، وبالفعل راجعها ووهبها حديقة بشرط الأ تتزوج بعده أحدا ، واستمرت الحياة بينهم في غاية السعادة ، ولكن لم تدم طويلًا فقد استشهد عبدالله في إحدى المعارك وقالت فيه عاتكة شعرًا .
عاتكة استمرت في عبادة ربها تبتعد عن الناس وتتذكر أيامها السعيدة مع زوجها السابق عبد الله ، ولكن بعد فترة تقدم إليها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنة وأرضاه ، ولكنها أخبرته بشرط زوجها السابق عبد الله واستفتت علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأخبرها أن ترد الحديقة التي أهداها لها عبد الله بن أبي بكر مقابل عدم زواجها بعده إلى أهله ،
وبعد ذلك تزوجت سيدنا عمر بن الخطاب ، وقد رزقها الله عز وجل منه عياض وقد كانت عابدة مخلصة لدينها ولزوجها .
الأمور لم تسر في مسارها الطبيعي ولكن علي العكس جرت الرياح بما لا تشتهي السفن فلم يمروقت طويل حتي طعن سيدنا عمر بن الخطاب على يدي أبو لؤلؤة المجوسي وهو يصلي بالناس صلاة الفجر فتنتقل روحه إلى بارئها ، وتحزن عليه عاتكة حزنًا شديدًا وتبكي على فراقه وهي تقول الشعر :
فجعني فيروز لا در درة ** بأبيض تال للكتاب منيب
رءوف على الأدنى غليظ على العدا ** أخي ثقة في النائبات مجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله ** سريع إلى الخيرات غير قطوب
عين جودي بعبرة ونحيب *** لا تملي على الإمام النجيب
عقب استشهادسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظلت فترة طويلة لا تخرج من بيتها إلا للصلاة بالمسجد ، وعندما انقضت أيام العدة تقدم لها الزبير بن العوام ولم تكن تريد الزواج ، ولكن ألح عليها الزبير بن العوام وبالفعل تم الزواج وقد كان غيورًا جدًا عليها ، حتى أنه كان يغار عليها إذا ذهبت إلى الصلاة بالمسجد .
ومرت الأيام بينهم هانئة إلى أن قتل زوجها الزبير بن العوام أيضًا بعد أن اغتاله عمرو بن الجرموز ، فبكت عليه حزنًا وقالت فيه شعرًا :
غدر ابن جرموز بفارس بهمـة **يوم اللقا و كان غير معـرد
شلـت يمينك إن قتلت لمسلما **حلت عليك عقوبة المستشـهد
وبعد انقضاء عدتها جاءها سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يريد زواجها ، فقالت له إني لا أضن بك يا ابن عم رسول الله عن القتل ، فعاد علي عن طلبه وبعد ذلك تزوجها سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد كانت رفيقة كفاحه ورحلت معه إلى الكوفة وصبرت صبرًا جميلاً ، إلى أن قتل سيدنا الحسين بكربلاء وكانت أول من رفع خده من على التراب ولعنت قاتله وقالت فيه شعرًا :
وحسيناً. فلا نسيت حسينا * أقصــدته أسنة الأعــداء
غــادروه بكربلاء صريعاً جادت المزن في ذرى كربلاء
سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه كان أخر زوج لها ، وبعدها بفترة توفيت الصحابية الجليلة سنة 40 للهجرة ، بعد أن تزوجت خيار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، ونالوا جميعًا بدخولهم حياتها الشهادة ، فرحم الله المرأة العابدة عاتكة العدوية.