ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على عزة النفس والكرامة وحرية الرأي والتعبير، ولم يربهم قطيعًا مطيعًا، ولا أذلاء جبناء، وصار هذا الأمر علامة مميزة لهذا الدين العظيم في الآفاق حتى ملأ الدنيا سمعًا وبصرًا وانتشر الإسلام في بقاع الأرض لهذه القيم العظيمة، بعدما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليحرر الإنسان من عبودية الإنسان.
ومن موجبات السعادة للإنسان، إحساس المرء بعزّة نفسه، أي أن يشعر بأنّه عزيزاً محترماً في ذاته وعند غيره. وفي المقابل، فإنّ شعور الإنسان بالذلّة والهوان وحقارة نفسه، يجلب له الشعور بالتعاسة والشقاء.
وبين ذلك الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم قائلا: ” ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيِّبات
وفضَّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً (الإسراء/ 70).
وفي الدُّعاء: “إلهي كفى لي عزّاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً”، وكلّما كان الإنسان “إلهياً” في سلوكه، كان أقرب إلى الله وأعز وأكرم في ذاته، وأطهر وأطيب في سلوكه.. لأنّه يحاول أن يتخلّق بأخلاق الله ويتأطّر بجماله وكماله، وبهذا السلوك القويم، يكون الإنسان مقبولاً، بل محبوباً من قبل الآخرين فلا يشعر بالإهانة أو الذل، بل يمتلأ عزّاً وثقة بنفسه، وذلك لأن سلوكه جميلاً ومنهجه لطيفاً وتعامله مع الناس رقيقاً وودوداً، لا يريد لهم إلا الخير، فيُلجأهم بذلك إلى التعامل – غالباً – بالخير.
ومن نماذج تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على العزة وكرامة النفس، أنه كان يقول من باب التكريم: “لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، إنما ليقل فتاي وفتاتي”، حتى لا يشعر العبد أنك أن متعال أو مترفع عليه، لذلك جاء القرآن الكريم بهذا اللفظ قال : ” وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ”.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن هؤلاء: “إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم”.
وكان صلى الله عليه وسلم يعامل الجميع بهذه المبدأ، مبدأ أنك عبد حر، عبد لله وحده لا لبشر، لا عبودية من بشر لبشر
إنما لله خالصة لله وحده لاشريك له، وجاء الأمر النبوي بأن يكون الناس جميعا سواسية، لا يستعلي جنس على جنس…
وجعل الله سبحانه وتعالى التفاضل بالتقوى. “… إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ …”.
فعندما صعد بلال رضي الله عنه على ظهر الكعبة يؤذن يوم فتح مكة تكلم بعض الناس فيه بأنه عبدا حبشيا، فالمجتمع ما زال يعاني من رواسب الجاهلية ، حتى أن أحدهم قال الحمد لله أن مات أبي قبل أن يرى هذا اليوم. ليتنزل الوحي من الله عز وجل ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ …”.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يلغي هذه الفوارق العنصرية، يلغي صلى الله عليه وسلم هذه الأمور التي تستبشعها البشرية الآن.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للناس : “كلكم لآدم وآدم من تراب”.
ولما طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهم مجلسا ، الأغنياء من المشركين قالوا : لا يليق بنا أن نكون السادة وأن نكون الأغنياء والوجهاء ونجلس مع الفقراء من الصحابة، لا نريد هذا… خصص لنا مجلسًا، مكانًا نجلس فيه.
وينزل القرآن معلمًا ومنبهًا “واصبر نفسك مع الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا”.
جبلة بن الأيهم:
حدث في زمان عمر بن الخطاب أن أحد الأمراء كان في شمال الجزيرة إمارة صغيرة تابعة للرومان اسمها إمارة غسان
حدث في زمان عمر بن الخطاب أن أحد الأمراء كان في شمال الجزيرة إمارة صغيرة تابعة للرومان اسمها إمارة غسان
، فأمير الغساسنة اسمه جبلة بن الأيهم جاء وأعلن إسلامه بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وحينما طاف بالكعبة داس أحد عامة الناس على إزاره، فما كان منه إلا أن رفع يده وصفعه، فذهب إلى أمير المؤمنين يشكو إليه وبسرعة تم استدعاء جبلة بن الأيهم. أأنت فعلت؟
قال نعم.
قال إما أن ترضيه وإما أن يقتص منك.
الرجل اندهش. قال نعم! أتسوي بين الأمراء والسوقة؟ أنت ستسوي بيني وبين هذا الرجل؟
ماذا قال عمر؟ قال الإسلام سوى بينكما.
فقال أمهلني (وجد أنه ليس هناك حلاً مع عمر رضي الله عنه). قال أمهلني إلى الغد.
ماذا فعل؟ فر في الظلام هاربًا حتى لا يقع في هذا الأمر وارتد عن الإسلام وبقي حتى هلك.
وأيضًا لما سبق أحد المصريين ابن عمرو بن العاص فضربه وقال أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ استعز الولد بوالده أن أبوه أمير مصر فماذا فعل الرجل ؟
الرجل يعلم يقينًا أن حقه لن يضيع ويذهب إلى عمر بن الخطاب مسافة شهر كامل سفر ، لكن يعلم أن حقه لن يضيع …. ويذكر لعمر بن الخطاب القصة ثم بعد ذلك تكون رسالة عمر ويرسل في طلب عمرو وابنه ويقول من عمر بن الخطاب إلى العاصي ابن العاصي، غضبًا لما فعله ابنه وقوله أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ ويأخذ الرجل حقه ويقول عمر بن الخطاب كلمته :
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ !.
قصة زاهر مع رسول الله:
كان هناك أحد الأعراب من البادية اسمه زاهر كان يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ببعض الهدايا ويأت ببعض الأشياء يبيعها في السوق والنبي يبادره ببعض الهدايا….. فجاء إلى النبي فسأل عليه؛ فلم يكن النبي ببيته فذهب إلى السوق فلما علم النبي بحضوره تبعه حتى جاء من خلفه وجعل يده على عينه -يداعبه أو يمازحه صلى الله عليه وسلم- طبعا أهل البادية فيهم خشونة في بعض الأمور.
قال دعني، أتركني وجعل يهز نفسه ويدفع من وراءه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول من يشتري العبد؟ من يشتري العبد؟
حتى عرف الصوت (زاهر عرف صوت رسول الله)
قال: تجدني كاسدًا والله (أنا لا أساوي شيئًا).
ولم يكن رضي الله عنه حسن الخلقة أو وسيما. قال تجدني كاسدًا ما أساوي شيئًا.
قال : ولكنك عند الله لست بكاسد.
قصة سواد بن غزية :
في غزوة بدر وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف، لكن سواد تقدم عن الصف قليلاً، والرسول يريد الانضباط العسكري لبدء المعركة…. سواد متقدم….. الرسول يقول: استو يا سواد ويمضي الرسول إلى نهاية الصف، فيرجع فيجد سواد كما هو وفي يده عصا قضيب صغير يشير به فضربه على بطنه. قال لقد أوجعتني يا رسول الله. أوجعتني بهذه الضربة!!!.
قال خذ العصا أو القضيب واقتص مني. خذ حقك.
قال لقد ضربتني وبطني عارية، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقوم سواد بن غزية فيمرغ وجهه في بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقبلها والنبي يقول كفى يا سواد، كفى يا سواد.
ترفع عن الصغائر تمت ملكًا
عزة النفس.. لاشك هي من المبادئ الجميلة التي يتحلى بها الشخص, والعزّة تعني أن يرتفع الإنسان عن كل المواضع التي تقلل من قيمتهِ ومن قيمة نفسه والسمو عنها, فهي صفة العظماء ولا يتحلى بها إلاّ أصحاب المبادئ الذين يعيشون لأجل أن يموتوا بكرامة وعزّة بين الناس, والعزّة عكسها الوضاعة والوضيع هو الذي يقبل بالإهانة بأي شيء فهي صفة الضعفاء.
والعزّة ليس بمعنى أن يرى الإنسان نفسهُ دون سواه, فالأعزّاء هم الأشخاص الذين لا يسمحون من كان فوقهم أن يقلل من شخصيتهُ ولو مثقال ذرة أو أن يمسّوا كرامتهم, وإذا وجدوا من هم دونهم لا يتكبّرون عليهم ويحترمهم حتّى يرفع من قيمتهم ليصلوا إلى ما وصل إليهِ ,فهم يطبّقون المثل الذي يقول «احترم نفسك من دون أن تحتقر أحد».
وعزة النفس من القيم التربوية والأخلاقية التي يتحلَّى بها الإنسان النبيل، والتي ترفعه عن كل ما يُقلِّل مِن قيمة نفسه، ولا يتَّصف بهذه السجيَّة إلَّا العظماء الذين يعيشون بعزَّة وكرامة بين الناس، وينفرون مِن مواضع الوضاعة والمهانة، وعزة النفس في العمق تكون ممزوجةً بالتواضُع والوقار، وليستْ هي التكبُّر والتعالي وإقصاء الآخر وتحطيمه؛ لأنها تكمُن في احترام النفس وإبعادها عن كلِّ شيءٍ لا يليق بها؛ أي: الابتعاد عن كل ما يَشين الفعل الإنساني، والكبر والغرور ونبذ الآخر ممَّا يُفسد السلوك البشَري.
والشخص العزيز النفس تعرفه تلقائيًّا من تصرُّفاته الظاهرة التي لا تجد فيها أيَّ وجهٍ مِن أوجه الذِّلَّة والخضوع لغير الله، فلا يسمح لأحد أن يستوطنَ شخصيته؛ نظرًا لقوة شخصيته، وسلامة تصرُّفاته ونقاء طبعه، وهذا ما لا يترك أيَّ مجالٍ لأحدٍ بأن يمسَّ ذاته وكرامته، ولا يعني البتة أن عزيز النفس يرى نفسه دون سواه؛ أي: إنه لا يتكبَّر على أحد، ويحترم الجميع؛ بل يحاول خَلْق نوعٍ مِن الوعي الإدراكي عند الآخرين؛ ليرفعوا مِن قيمة ذواتهم المَبْخُوسة.
ومِن أهم الفضائل التي يتميَّز بها عزيز النفس:
• يحسُّ عزيز النفس أن عِزَّة نفسه تجلب له السعادة والشعور بالارتياح؛ أي: إنه يستشعر في ذاته راحة ضميره الذي يُوفِّر له سعادة داخلية تجعل صدره يمتلئ انشراحًا، وبذلك تكون عزة نفسه مصدرًا أساسيًّا لشعوره بالفخر والرضا.
• يُدرك عزيز النفس جيدًا أنه المسؤول الوحيد عن أفعاله؛ لذا يحذَر كثيرًا من التصرُّف بسلوكٍ يُسيء له، وإن وقع فيما يحذر منه لا يُحاول خلق مُبرِّرات واهية لما فعَله؛ لأنه لا يرضى أن يضَعَ نفسه في موضع المهانة؛ فهو يحترم نفسه، ويعرف حدوده؛ لذا تجده غير قادر على تجاوُز خطوطه الحمراء، كما أنه لا يسمح لغيره بتجاوُز حدوده معه.
• يعتمد عزيز النفس على ذاته بالدرجة الأولى، ولا يستغلُّ مجهودات الآخرين، كما يتجنَّب تحميل أعبائه لغيره؛ أي: إنه لا يرضى أن يكون استغلاليًّا وصاحب مصلحته؛ لأنه ليس طماعًا ولا يحمل جشعًا لكي تهفو نفسه إلى ما ليس مِن حقِّه.
• يحرص عزيز النفس على ضبط تصرُّفاته، ولا يمكنه أن يتوسَّل سوى للعلي القدير؛ نظرًا لشخصيته المتَّزنة، ولكونه صاحب ثقةٍ عالية بنفسه، كما أنه قد يحبُّ شيئًا ما، ولكن تعزُّ نفسه أن يناله ما دام أنه لا يستحقُّه عن جدارة؛ لهذا لا يُمكنه أن يتخلَّى عن عزة النفس؛ بالرغم ممَّا يواجهه من مواقف وصعوبات في الحياة؛ لذا فعزة النفس تُعطي لصاحبها الاحترام والوقار.
• إن كانت لعزيز النفس حاجة عند الآخرين يطلبها بعزَّة نفسٍ، ولا يُذِلُّ ولا يحتقر نفسَه بغيةَ الحصول على ما يطلبه، فحاجتُه للناس لا تجعله ينسلخ عن القيم النبيلة، وبمجرد أن يحسَّ أن نزاهة عرضه وبقاء عزَّته في خطَرٍ يستغني عن حاجته لهم، فترفعه بذلك نفسُه عن منزلة الواهن الضعيف؛ لأن ضياع حاجته لا يُساوي شيئًا أمام أية دنيَّة لنفسه؛ والنفسُ جوهرة ثمينة، فإذا استبدل الإنسان بها أي شيء آخر، فإنه يُصبح مَغبونًا؛ لذا فالنفسُ عند المعتزِّ بنفسه فوق جميع الأشياء، ولا يوجد شيء أثمن منها عنده.
قالوا عن العزة:
– قال عبد الله بن عمرو: “إيَّاك وعزَّة الغضب، فيضيرك إلى ذُلِّ الاعتذار. وإذا ما عَرَتك في الغضب العِزَّة فاذكر مَذَلَّة الاعتذار”.
– قيل للحسن بن علي رضي الله عنهما: فيك عَظَمَة. قال: لا، بل فيَّ عِزَّة الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون من الآية:8].
– وقال ابن أبي لبابة: “من طلب عِزًّا بباطل، أورثه الله ذُلًّا بحقٍّ”.
– قال رجل للحسن: “إنِّي أريد السِّند فأوصني. قال: أَعِزَّ أَمْرَ الله حيث ما كنت، يُعِزَّك الله. قال: فلقد كنت بالسِّند، وما بها أحدٌ أعزَّ منِّي”.
– وقال ابن عطاء: “العِزُّ في التَّواضع، فمن طلبه في الكِبْر، فهو كتطلُّب الماء من النَّار”.