كان النبي صلى الله عليه وسلم شابا مثلما كنا، لكنه لم يكن مثلنا، وحق للنبي صلى الله عليه وسلم بما يمتلك من سيرة حسنة، أن يقرأ سيرته كل مسلم لكي يستغل شبابه في أفضل صورة وأحسن شكل، يأخذ من النبي ويفعل، فالشباب فرصة رائعة لحصد الكثير، وبناء ركيزة الحياة والمستقبل، فقد كان النبي في شبابه كما كان في حياته كلها صاحب أدب وفير، وأخلاق محمودة، فأحبه الناس.
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم شبابه في رعى الغنم لأهل مكة على قراريط حتى الثانية عشرة من العمر، ثم سافر مع عمه في تجارة إلى بلاد الشام وهو دون الثالثة عشرة، وفي تجارة للسيدة خديجة بنت خويلد وهو دون الخامسة والعشرين، وعرف العزلة عن قومه والعبادة لخالقه من قبل أن يأتيه الوحي فلم يقترب من صنم أبدا، ولم يقترف سلوكا يعاب أبدا، ولا تلفظ بكلمة نابية أبدا.
ولرعى الغنم حكمة في تحمل مشاق العمل وتكبد عناء الشمس، وتحمل المسئولية في الصغر، يقول النبي صلى اللله عليه وسلم عنها: “ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم، فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: ؟وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط”.
واضطر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمل برعي الغنم بعدما مات أبيه قبل أن يولد، وأمه وهو في السادسة، وعمل في رعي الغنم وهو صغير، حتى ظهرت أمانته وجنى أرباح النجاح من ذيوع صيته في الأمانة والمهارة في التجارة، فوصلت إلى أسماع السيدة خديجة بنت خويلد، التي اتفقت معه على أن يتولى مسئولية تجارتها وهو دون الخامسة والعشرين.
عمل النبي في رعي الغنم
والعبرة من أن رسول الله صلي الله عليه و سلم رعي الغنم ، تربية النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال من خلال هذه البيئة الخصبة الصافية:
1- الصبر: على الرعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظراً لبطء الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها إلى الصبر والتحمل، وكذا سياسة البشر.
2- الحلم: فبعضها يتقدم وبعضها يتأخر وبعضها يذهب شمالاً وبعضها جنوباً، فإن كان الراعي غضوباً جمعها بعد شتاتها بصورة مرعبة فتبقى مجتمعة خائفة لا تأكل تخشى من عصا الراعي.
3- الأناة والقدرة: على جمع شتاتها بعد رعيها بدون أذى يلحق بها، أو نقص في غذاء يصيبها.
4- الرأفة والعناية بالضعيف: ففيها الصغير والضعيف والهرم، فيحتاج منه إلى لين ورأفة بها حتى تلحق بصواحبها وترعى مثلهن، وكذا سياسة البشر.
5- ارتياد أماكن الخصب: والبحث عنها ونصحها في ذلك وتجنيبها مواطن الجدب والهلكة، وكذا سياسة البشر تحتاج إلى بذل الجهد والنصح لهم في توريدهم مواطن الخير وتجنيبهم مواطن الهلكة، وتحسين معاشهم وما يحتاجونه من رزق حلال، وتجنيبهم الأرزاق المحرمة التي تسبب لهم الويلات والفساد، وتوزيع الثروة عليهم كل على حسبه وقدرته وجهده.
6- التواضع: في رعي الغنم وهو أمر ظاهر وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر» فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنا؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»
7- ورعي الغنم من أعظم الفرص في الخلوة بالله تعالى والتفكر في خلق السموات والأرض حيث السماء بنجومها، والأرض بجبالها وأشجارها وأنعامها…
8- إن الله تعالى قادر على أن يغني محمداً صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد.
9- ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد وصاحب الدعوة يجب أن يستغني عن ما في أيدي الناس ولا يعتمد بدعوته عليهم، فبذلك تبقى قيمته وترتفع منزلته، ويبتعد عن الشبه والتشكيك فيه، ويتجرد في إخلاص العمل لله تعالى، ويرد شبه الطغاة والظلمة الذي يصورون للناس أن الأنبياء أرادوا الدنيا بدعوتهم: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} (يونس:78) هكذا يقول فرعون لموسى، ونظراً لسيطرة حب الدنيا وحطامها على عقولهم يظنون أن أي تفكير وأي حركة مراد به الدنيا، ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم مبينة استغنائها عنهم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} (سبأ:47)، {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ} (هود:29).
دعوة النبي إلى العمل
روى البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ».
وكان أصحاب رسول الله يتاجرون ويعملون بأيديهم ولا يعتبر غضاضة في حقهم، فهذا عمر يشغله الصفق بالأسواق عن حضور بعض مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى في الاستئذان «أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ».
وفي البخاري عن قتادة: «كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله»
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازًا رفيعًا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظًا وافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشؤون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ما سواها من خرافة، ونأي عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسنًا شارك فيه وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالًا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمنى برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذنـى فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس. فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة... ثم ما هممت بسوء).
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال: (إزاري، إزاري) فشد عليه إزاره. وفي رواية: فما رؤيت له عورة بعد ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه: ”الأمين”] لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق.