لا تتوقف أسرار الرحلة المباركة التي يعرفها المسلمون بـ “الإسراء والمعراج” على ما يؤمن به القلب ويصدقه العقل من برنامج الرحلة المقدسة التي ذهب بها النبي صلى الله عليه وسلم خلالها من مكة إلى المسجد الأقصى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1].
ومن المسجد الأقصى إلى السموات العلى فيما يعرف بالمعراج: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ”.
بدايةالرحلة المقدسة
في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب الحرام من السنة السابقة على الهجرة سنة (620 م)، طاف النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة المشرفة ليلًا وحيدًا ومهموما من أفعال المشركين في مكة، ثم عاد إلى بيته، وأوى إلى فراشه، وعند منتصف الليل جاءه جبريل عليه السلام ليوقظه من نومه مخبرًا إياه بأن الله تعالى يدعوه إلى السماء.
لم ير النبي فرحة فرحها مثل فرحته بهذا الخبر الذي جاء من السماء، فعلى الفور تحرك الركب الكريم بالبراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حيث استقبلتهما ثلة من الملائكة، وأكدت هاتين الحادثتين المباركتين سورة الإسراء وسورة النجم، و ما تبع ذلك من العروج إلى سدرة المنتهى، حيث جنة المأوى، ثم راح رسول الله يصعد حتى سجد بين يدي ربه، وتلقي منه الأمر بالصلاة، ثم عاد إلى بيت المقدس حيث صلى إمامًا بأنبياء الله ورسله وعاد إلى مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئًا، وهذا يعني أن الله تعالى قد طوى له المكان وأوقف له الزمن.
عندما جاء الصباح حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بأخبار رحلته، فكان منهم من صدقها، ومنهم من لم يصدقها، وكان أول المصدقين بها أبو بكر بن أبي قحافة، ومن هنا سمي باسم الصديق، وطفق مشركو مكة يتناقلون الخبر في سخرية واستعجاب حتى تحدى بعضهم رسول الله أن يصف لهم بيت المقدس، عندئذ جلّى الله تعالى لرسوله الكريم صورة بيت المقدس فطفق يصفه وصفًا تفصيليًا لهم.
هذه الفرحة التي نزلت على أمة الإسلام من السموات العلى، لتزف إليهم خبر وتفاصيل هذه الرحلة المقدسة، لا ييأس أعداء الإسلام وبعض أتباعهم من بني جلدتنا، من محاولة إفساد هذه الفرحة علينا، بالتشكيك في الرحلة، وخبر السماء الذي جاء إلى الأرض.
وبالرغم من الردود العلمية والمثبتة بالقرآن والسنة، إلا أنهم مازالوا يشككون.
يقول الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن الإسراء والمعراج معجزة اختص الله بها النبي الكريم “صلى الله عليه وآله وسلم” تكريمًا له وبيانًا لشرفه “صلى الله عليه وآله وسلم”؛ وليطلعه على بعض آياته الكبرى؛ قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].
وقال تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى”﴾ [النجم].
وقد اتفق جمهور العلماء على أن الإسراء والمعراج حدث بالروح والجسد؛ لأن القرآن الكريم صرَّح به؛ لقوله تعالى: ﴿بِعَبْدِهِ﴾ والعبد لا يطلق إلا على الروح والجسد، فالإسراء تحدث عنه القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويمكن للسائل أن يراجع الأحاديث التي وردت في مظانها.
أما المعراج أكد جمهور العلماء من المحققين على أن المعراج وقع بالجسد والروح يقظة في ليلة واحدة، وإذا كان القرآن الكريم قد تحدث عن الإسراء صراحة وعن المعراج ضمنًا، فإن السنة جاءت مصرحة بالأمرين الإسراء والمعراج.
من أسرار الرحلة المقدسة
كانت رحلة الإسراء والمعراج هي الرحلة الوحيدة التي تزينت لها السموات والأرض، استعداد للقاء الحبيب صلى الله عليه وسلم بربه الكريم، كما كانت هي الرحلة الأسمى والأعلى التي عرج فيها النبي وحده دون غيره من البشر لصدرة المنتهى، فكان جديرا أن تتزين له السموات، ويستقبله الأنبياء، وتتأهل الأرض وتتزين، بتشريف النبي عليها، بعد أن جاء من لقاء ربه، يحمل تفاصيل الدعوة الكريمة، ورجالها الذين سيتحملون أمانة التكليف.
شرف النبي صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء، بصدرة المنتهى إذ يغشى الصدرة ما يغشى، فإذا كانت الخلَّة لإبراهيم، والتكليم لموسى، والإحياء لعيسى، فقد كان للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، الرؤية والشرف الأعظم ، فزاد على كلام موسى أرضًا، أن يجعل له ربه شرف الرؤية في العرش فوق السموات العلى، وإذا كان مُمكنًا للبشر أن يروا الله تعالى منامًا، فقد كانت للنبي الرؤيا يقظةً، وإذا كان العلم بالجنة والنار والغيبيات سماعًا، فقد كانت لمحمد عيانًا، ولما كان الدِّين ينزل من السماء إلى الأرض فقد فرض الله عماده ليلة المعراج سماءً، ولما كان جزاء الصبر على المحْنَة هو المِنحة؛ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
ولما كان الحزن على موت خديجة وأبي طالب قد بلغ مداه، ولما كان الأذى في الطائف قد بلغ سيلُه زباه والليالي تموج حلكًا، والرسول – صلى الله عليه وسلم – صامدًا، ما زاده ذلك إلا إيمانًا وتثبيتًا وما كان يدعو عليهم بل يقول: ((اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون))، وكان أخوه نوح – عليه السلام – بعد يأسه من قومه يقول: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ [نوح: 26]، وأخوه موسى قال داعيًا على قومه: ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]، فلا جرم أن يستحقَّ المصطفى – صلى الله عليه وسلم – بذلك وغيره تميُّزًا فوق التميُّز، وتكريمًا فوق التكريم.
رحلة الإسراء والمعراج حدث مهيب، أثبت فيها النبي صلى الله عليه وسلم للمعاصرين له حقيقة الإسراء إلى بيت المقدس؛ وذلك بما قدَّمه من أدلَّة مادية تُؤَكِّد صدق كلامه، وترك لنا صلى الله عليه وسلم، المعراج الأعظم، ليفتح لنا باب الإيمان ولم يغلقه في وجوهنا، ويجعل لنا نصيب من إيمان أبي بكر، بنبوته صلى الله عليه وسلم وصدقه، وكذلك مع كامل الإيمان بقدرة الجبار ربِّ السموات والأرض؛ ومن ثَمَّ فلم تكن رحلة الإسراء والمعراج اختبارًا لإيمان المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط؛ وإنما ما زال اختبارها قائمًا إلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة.
ماذا حدث ؟
بدأت قصة الإسراء والمعراج برؤيا رآها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يُوحى إليه، تمامًا كما حدث في موضوع الوحي، فكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في منامه يقول له: اقرأ. إلى تمام القصة ثم حدث ذلك على الحقيقة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قصة عروجه إلى السماء قبل أن تحدث على الحقيقة بعد ذلك بأعوام، وهذا ما رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يَقُولُ: “لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ. فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ. فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلاَّهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِه [1] حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ[2] مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ -يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ- ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، إلى نهاية القصة التي ذكر الرواة أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها في المنام أولا قبل أن تحدث حقيقة معلومة.