لم تنتهِ مفاعيل “رسالة” رئيس الجمهورية ميشال عون إلى مجلس النواب حول التأخّر في تشكيل الحكومة فصولاً بعد، بعدما أجمع المراقبون والمحلّلون على أنّها “انقلبت” على الفريق الرئاسيّ، وأتت بالحدّ الأدنى بمفعول عكسيّ، فجدّدت “التفويض” الممنوح للرئيس المكلَّف سعد الحريري، بدل سحبه منه كما كان يتمنّى “العونيّون”.
تُطرَح أسئلة كثيرة في الأوساط السياسيّة عن سرّ هذه “الخطيئة” التي ارتكبها فريق “العهد”، خصوصًا أنّ أحدًا لم يكن يتوقّع أن تُفضي جلسة البرلمان إلى تكريس “سابقة” سحب التكليف، مع كلّ التداعيات الدستوريّة والسياسيّة التي يمكن أن تترتّب عنها، في وقتٍ لم يَبدُ حديث “العونيّين” عن “اكتفاء ذاتيّ” بإعادة إحياء النقاش حول الموضوع الحكوميّ في قلب المؤسّسات، مقنِعًا لأحد، أو حتى جدّيًا.
ثمّة من يغمز في هذا الإطار من قناة ما توصَف بـ”الانعطافة الجنبلاطيّة”، في إشارةٍ إلى المواقف الأخيرة لرئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، التي “استاء” منها “المستقبليّون”، فيما هلّل لها “العونيّون”، حيث يرى كثيرون أنّ “الترابط” بين تظهير هذه المواقف، والرسالة الرئاسيّة، لم يكن “محض صدفة”، خصوصًا أنّ هناك من يؤكد أنّ عون كان قد اقتنع بصرف النظر عن خطوته، بعد نقاشاتٍ بشأنها مع رئيس البرلمان نبيه بري.
علاقة ليست على ما يُرام؟
تنطلق هذه الفرضيّة من قراءة “عونيّة”، قد تكون واقعيّة في جانبٍ كبير من حيثيّاتها، للعلاقة بين رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري ورئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، والتي لا تبدو “في أحسن أحوالها”، بل ربما في أسوئها نتيجة “التباعد” في المواقف بين الجانبين على أكثر من صعيد، ولا سيّما على مستوى الملفّ الحكوميّ.
ولعلّ هذا الأمر تجلّى بوضوح في المقابلة التلفزيونية الأخيرة للنائب السابق جنبلاط، حين أطلق بعض المواقف التي بدت “مستفزّة” للحريري وأنصاره، سواء بدعوته المتجدّدة إلى خيار “التسوية” في الملفّ الحكوميّ، الأمر الذي لم يعد الحريري من محبّذيه، أو بحديثه “الصريح” عن اعتقاده بأنّ “الشيخ سعد” ليس رجل المرحلة بالنسبة إلى السعودية، أو أنّ الأخيرة لا تريده في رئاسة الحكومة.
ولأنّ هذه المواقف “تقاطعت” إلى حدّ بعيد مع الكثير من مواقف “التيار الوطني الحر”، المتمسّك بمقولة إنّ الحريري “عاجز” عن التأليف، وإنّه يفتقر إلى “الضوء الأخضر” الإقليميّ، و”المباركة” السعودية تحديدًا، كان “رهان” الفريق الرئاسي على أن يستكمل “الاشتراكي” انعطافته، لترقى لمستوى “الانقلاب”، بحيث ينضمّ إليه في التصويت على “سحب التكليف”، لإفساح المجال أمام “التسوية” التي يروّج لها جنبلاط.
“ثوابت جنبلاطية”!
لم تتطابق حسابات الحقل العونيّ مع البيدر الجنبلاطيّ، إن جاز التعبير، فبقي الفريق الرئاسيّ يغرّد وحيدًا، بعدما تموضع حليفه الوحيد، “حزب الله”، في نقطة الوسط، فيما بدا “الاشتراكيّون” أقرب إلى الحريري، رغم “التباعد”، وتحت “مظلّة” رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي لا يزال يحافظ على “صداقته” بـ”الشيخ والبيك” في آن واحد.
ويقول العارفون في هذا الإطار، إنّ “الخطيئة” التي ارتكبها رئيس الجمهورية قد تكون أنّه في مقابل “إتقانه” قراءة المعطيات السياسيّة الآنية، لجهة تفكيك “شيفرة” العلاقة بين الحريري وجنبلاط، فإنّه “أخفق” في إدراك “الثوابت الاشتراكية” المبدئيّة، والتي لا تتيح له الذهاب بعيدًا في أيّ “انقلاب”، علمًا أنّ “التسوية” التي ينشدها هي محاولة “واقعيّة” للوصول إلى حلّ في ضوء الأزمات المتفاقمة، لا للتصادم مع الحريري بأيّ شكلٍ من الأشكال.
وإذا كانت الأزمة بين الحريري وجنبلاط تعود تحديدًا إلى اليوم الذي أعلن فيه “البيك” قبوله توسيع الحكومة إلى 24 وزيرًا، بعدما كان “الشيخ” يتذرّع به لرفض أيّ نقاش بصيغة الـ18 وزيرًا، التي تمنع تمثيل خصومه الدروز، فإنّ ذلك لا يعني أنّ “الاشتراكي” انتقل من ضفّةٍ إلى أخرى، وفق ما يؤكّد المحسوبون عليه، الذين يؤكدون أنّ جنبلاط لا يزال كما كان دومًا، داعيًا إلى التوافق للمصلحة العامة، بعيدًا عن مصالح شخصيّة وآنيّة لا تقدّم ولا تؤخّر.
لم يكن فريق “الرئاسة” موفَّقًا بتوجيه “رسالة” إلى البرلمان، كان واضحًا أنّها “عقّدت” الأجواء العامة، ولم “تيسّر” تأليف الحكومة، ولا حتّى “سحب التكليف”. لكنّه لم يكن “موفَّقًا” أكثر بالرهان على خلاف من هنا، وأزمة من هناك، لتحصيل مكاسب، يقول كثيرون إنّها باتت بلا قيمة ولا معنى، في ضوء الأزمات الكبرى التي يشهدها الوطن، والتي ما عاد بالإمكان القفز فوقها و”تطنيشها” بكلّ بساطة!