كتب طوني عيسى في “الجمهورية”: عند الثانية عشرة و47 دقيقة، ظُهرَ أمس، تنفَّس “حزب الله” الصعداء. والأرجح أنّه أساساً كان على درجة عالية من الاطمئنان بالقرار المنتظر، بعد تأجيل 11 يوماً بسبب انفجار المرفأ. لقد جاء الحُكم بالنسبة إلى “الحزب” أفضل ما يمكن. فهو إذ تحدث عن شُبهةٍ بوجود مصلحةٍ له ولسوريا في الاغتيال، أكّد أن لا دلائل إلى ارتباط قيادة “الحزب” أو سوريا بالعملية، مع إشارة معبِّرة إلى علاقةٍ طيّبة كانت قائمة بين الرئيس رفيق الحريري والأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصرالله في الفترة التي سبقت التفجير. إذاً، هذا ما يهمّ “الحزب”، والباقي تفاصيل.
عملياً، أظهرَ حُكم لاهاي أنّ عنصراً واحداً من حزب الله ثبت أنّه ضالع في العملية، وهو لم ينطق بأي إدانة لـ”الحزب” على مستوى القرار المركزي، أي القيادة. وهذا يعني أحد احتمالين:
1- الاحتمال البريء (بالمعنى المهني) وهو أنّ هذا هو كل ما تمكّنت المحكمة من تأكيده وإثباته فعلاً من حقائق، وأنّ التسلسل الجرمي صعوداً انقطع عند نقطة دنيا، ولم يصل إلى أحد في قيادة “الحزب”.
2- الاحتمال الخبيث (بالمعنى المهني)، أي ما يُسمّى في لبنان “اللفلفة”، وهو أنّ التحقيق، أو المحكمة، أرادا عمداً التوقف عند هذا المستوى من مسؤولية “الحزب” وحصر الاتهام بعنصر واحد، لأنّ النطق بالحقائق الكاملة يمكن أن يزعزع الاستقرار في لبنان.
فليس بسيطاً أن يكون “حزب الشيعة” قد اغتال “زعيم السنّة” في بلد واقفٍ على أرجوحة. وليس سهلاً اتهام المحكمة الدولية بـ”اللفلفة” أياً كانت الذرائع والمبرّرات.
إنّ مفاعيل أي حُكمٍ كان يمكن أن يصدر ضدّ حزب الله لا تنجلي فوراً أو في المدى القريب، بل تترك ترسّباتها الخطرة في طبيعة العلاقات الطوائفية في البلد المترنّح. وصحيح أنّ الشيعة هم اليوم الطرف الأقوى في لبنان، ولكن، في مراحل سابقة، كان المسيحيون هم الأقوى أو السنّة والفلسطينيون. إذاً، في المستقبل، مَن يستطيع ضبط لعبة الانتقامات اللامتناهية.
إذا كان التحقيق، أو المحكمة، أرادا ضبط الحُكم عند مستوى معيّن، فيصحّ القول إنّ عمل المحكمة مسيَّس. وعادةً، كان حزب الله هو الذي يرشق المحكمة دائماً بتهمة التسييس، أي باعتبارها أداة في أيدي القوى الغربية الكبرى لضربة أو إضعافه. لكن التسييس قد يكون اليوم مقلوباً، أي إنّه جاء لخدمة “الحزب” لا لإضعافه.
وبالعودة إلى سِجِلّ المحكمة على مدى الأعوام الـ15 الفائتة، خرجت أصوات عديدة تقول إنّها ستتجنّب في النهاية قول الحقائق “الفاقعة”، خشية أن يقود ذلك إلى تفجير البلد مذهبياً، خصوصاً بعد انفجار الحرب السورية في العام 2011.
وفي اعتقاد بعض المتابعين، أنّ الزخم الأقوى لكشف الحقائق، الذي كان مع المحقّق الأول الألماني ديتليف ميلس (2005)، ربما تراجع مع الثاني البلجيكي سيرج برامرتز (2006) ثم مع الكندي دانيال بلمار (2007).
ويتحدث هؤلاء عن المعلومات التي جرى تداولها في وسائل إعلام عالمية بارزة، قبيل إصدار القرار الاتهامي، والتي تضمنت انخراط أسماء قيادات سورية رفيعة في العملية. لكن ذلك القرار صدر خالياً من أي إشارة إليها (2011).
بعض المحللين يعتبر أنّ المحكمة وقفت في قرارها عند نقطة وسطى، إذ اقتربت من اتهام حزب الله بالجريمة، لكنها لم تطلق الحكم عليه رسمياً. وفي المغزى السياسي، تجنَّبت “إغضاب” “الحزب” ودفعه إلى ردّات فعل معينة، ودفع الآخرين إلى المواجهة وجرّ البلد إلى مخاطر عدم الاستقرار.
ولكن، في المقابل، حرصت على إرضاء “أهل القتيل” وأنصارهم المقتنعين بمسؤولية “الحزب” عن العملية، إذ قدَّمت القرائن التي توحي بذلك، “وكفى”. وعلى الطرفين خصوصاً واللبنانيين عموماً أن “يتدبّروا أمورهم” ويديروا العلاقات في ما بينهم، بناءً على هذه المعطيات.
بالنسبة إلى حزب الله، “مرَّ القطوع”. فليس سهلاً أن يُقال، لو جرى اتهامه، ولو بعد 100 عام أو 200 أو 300، إنّ الحزب الشيعي الأقوى اغتال الزعيم السنّي الأقوى. وعلى مرّ التاريخ، كانت ستستمرّ تداعيات العملية، خصوصاً إذا جرت إضافة عمليات أخرى سبقتها أو أعقبتها، وستقود إلى تعقيدات مذهبية.
وكذلك، هي ستقود إلى تعقيدات طائفية إذا رُبِطت بها عمليات استهدفت مسيحيين أو دروزاً. ففي سِجِلّ كل الطوائف عمليات هنا وهناك لم تَزُل ترسباتها، بل تتحرَّك بين الحين والآخر.
وهكذا، “انزلق” قرار المحكمة “بنعومة” فائقة. ويكفيها أنّ صدور القرار الذي كلّف الدولة 800 مليون دولار وقع على البلد من دون “ضربة كفّ”.
المهم، يجب الاعتراف بفضل المحكمة. لقد اكتشَفت أنّ الحريري ورفاقه ماتوا فعلاً. هذا مؤكّد بالنسبة إليها ولا تحتاج إلى “تدقيق بالتلفونات”.
ومن مجموعات “التلفونات الملوَّنة” التي تعذَّب الخبراء وفرزوها، استنتجت المحكمة أنّ هناك شخصاً واحداً مذنب هو عيّاش. نعم. “تَلْفَنْ عَيّاش”، ولكن “تَلْفَنَ” لنفسِه ونسّق العملية مع نفسِه، وانتقم من الحريري بنفسه لنفسه.
البعض قال أمس: يبدو أنّ اغتيال رئيسٍ للحكومة أو أي شخص في لبنان، ولو كان بحجم رفيق الحريري، ليس مسألة صعبة ومعقّدة وتستأهل التفكير إلى هذه الدرجة!
هذا الحُكْم الدولي، هل يمكن اعتباره إحدى علامات التوجُّه الدولي نحو لبنان اليوم، ونموذجاً لمقاربة أزماته الحالية؟
أي، هل أنّ المجتمع الدولي سيحرص على حماية “الستاتيكو” اللبناني الحالي بأي شكل، وبأي ثمن، وهل هو غير مستعد لخلط الأوراق في لبنان، خلال هذه المرحلة، فلا ينخدعنَّ أحد؟
استطراداً، هل يعني ذلك مثلاً أنّ أي تحقيق دولي، في فساد قطاعات المال، وفساد المؤسسات والإدارات والوزارات والمرافق والأجهزة، وبالأخصّ في انفجار المرفأ، يمكن أن ينتهي- وبعد 15 سنة- باكتشاف متَّهم واحدٍ… مجهول مكان الإقامة أو المصير؟
إذا ثبُتَ أنّ التحقيق المحلي رديء ويتحكَّم به الفاسدون، والتحقيق الدولي يدوِّر زوايا الملفات سنوات وسنوات حتى تذوب نهائياً، فلمَن يشتكي اللبنانيون؟ وهل مطلوب أن يستسلموا؟ ولمصلحة مَن يُراد لهم أن يستسلموا؟ وهل سيَقبلون بأن يستسلموا؟