كتب منير الربيع في “المدن”: يعود سعد الحريري إلى السياسة. هو الذي فارقها ذات يوم لحساب الاقتصاد، يعلم أن لبنان اليوم يدفع أفدح الأثمان اقتصادياً، لأسباب سياسية وإقليمية. يعود موقناً، بعد مراجعات ذاتية كثيرة، أن لا فصل بين العالمين، عالم السياسة وعالم الاقتصاد.
معمودية سياسية
حكومة حسان دياب مرحلة تقطيع وقت ضائع. ولن تحصل على مساعدات، ولن تقدر على إبرام إتفاقات كبرى أو إنجاز تسويات في ملفات تحتاج إلى أصحاب تمثيل سياسي، ومتمرسين في السياسة. ولربما كان عزوف الحريري عن رئاسة الحكومة في هذه المرحلة، أحد أفضل خياراته. لأنها حكومة إدارة تفليسة لبنانية ستنفجر، بل انفجرت بوجه الحكومة. وكان مخططاً له، لو قبل تشكيل الحكومة، أن يُحمّل مسؤولية الانهيار كاملة. لكن انكفاءه كشف العهد والحكومة الحالية، وهما لا يحتاجان إلى من ينصب لهم الشراك، لأنهم ينصبونها بأنفسهم ويقعون فيها.
من يكون في المعارضة، تكون حركته أسهل وأفعل في إصابة خصومه، فكيف في الأزمات الخانقة؟
لقد أصبح الحريري رامي السهام، بعدما كان من يتلقى السهام. من يلتقيه اليوم، يلمس تغيّراً في تفكيره وتوجهه. لقد عركته تجاربه المريرة السابقة، وأدخلته في معموديات سياسية كثيرة.
استبعاد باسيل وحزب الله
يقول إنه لا يريد العودة إلى رئاسة الحكومة في هذه المرحلة. لن يقدم على أي خطوة، قبل الحصول على تنازلات، سيجد الآخرون في مرحلة لاحقة أنهم بحاجة إلى تقديمها: غيابهم عن الحكومة. تماماً كما طرح الحريري ذات يوم، عندما ربط عودته بعدم مشاركة حزب الله وجبران باسيل.
إصراره على عدم توزير باسيل كان لأسباب كثيرة تحدّث عنها، وأخرى أبقاها مضمرة. أولها ترتبط بمواقف باسيل الخارجية، وصولاً إلى موقفه في أيلول 2019، عندما نأى بنفسه عن التضامن مع السعودية بعد تعرض منشآت شركة أرامكو لاعتداءات. أما ضرورة عدم مشاركة حزب الله في الحكومة، فسببها الضغوط والعقوبات التي ستشمل لبنان بلا فصل ولا تمييز بين الحزب والدولة اللبنانية.
هذه الشروط لا تزال قائمة في دفتر الحريري، الذي لم يعد لديه ما يقدمه من تنازلات. لكن هناك شروط أخرى، من بينها تنازلات خارجية يقدمها حزب الله في اليمن وسوريا، كما فعلت إيران في العراق.
سباق مع الزمن
بتحرّكه يوم السبت 6 حزيران، عبر اتصالات سياسية متعددة الاتجاهات، أراد استعادة الدور السياسي المؤثر للجم الفتنة. وهي مساع تفيده سياسياً، وتجعله حاجة ضرورية للخصوم. وهو استكملها بزيارته دار الفتوى، وتفعيل لقاءاته مع رؤساء الحكومة السابقين.
أكثر ما يهمه في المرحلة المقبلة هو إعادة العصب إلى تياره، بإجراءات تغييرية ومناقلات تهدف إلى التطوير. لطالما وعد بمثل هذه الخطوات لكنه لم يفعل. لذا لا بد من انتظار الخطوات التي سيقدم عليها، وإلى أي حد سيمضي بها. يعرف أن الساحة السنية مهشّمة، والطبيعة لا تقبل الفراغ الذي يسعى كثر إلى ملئه، ومن بينهم شقيقه بهاء. حتى لو رأى في تحركه مجرد ظاهرة صوتية تتجاوب أصداؤها في الفراغ.
ها هو يعكف على التفكير بعقد لقاءات وإجراء جولات في المناطق، لإعادة توفير الالتفاف حوله. وهو يعلم أن عليه أن يسابق الزمن.
التجرؤ على العهد
تعرّض لهجمات كثيرة، ولخيانات من شركائه في التسوية، أي التيار العوني. يتهمونه بما يقومون به، لكنه لم يعد يتوانى عن الردّ على ما يكال إليه من اتهامات، وآخرها في ردّه على رئاسة الجمهورية، إذ قال: “من التراجع عن قرار مجلس الوزراء بشأن سلعاتا، إلى ردّ التشكيلات القضائية بعدما وقّعها رئيس الحكومة حسّان دياب، إلى الحملة المُريبة على الأمين العام لمجلس الوزراء، ومحاولة الهيمنة على مجلس الخدمة المدنية، إلى التخبط المتمادي في الملفات الاقتصادية والمالية، إلى اعتبار التعيينات ملكاً حصرياً لجهة حزبية واحدة، وإلى اتّخاذ الرئاسة الأولى متراساً للدفاع عن مطالب حزب العهد.. إن هذا كله مساره واحد من السياسات العشوائية التي تقع تحت سقف خرق الدستور وتجاوز الصلاحيات وتقديم المصالح الحزبية على المصلحة الوطنية”. وأضاف: “العهد القوي ينافس الرئيس القوي بسرعة الفشل والتخبط والكيدية وخرق الدستور وإثارة العصبيات والجوع المزمن للإمساك بالتعيينات والمواقع الإدارية والمالية والاقتصادية”.
الموقف جزء من العدّة الجديدة التي يعدّها لانطلاقة جديدة. وجزء آخر منها، هو عودته إلى الحرس القديم، الذي ابتعد منه وافترق عنه، من نواب ووزراء سابقين، بسبب التسوية والتضارب في وجهات النظر.
لكن، هل يكفي ذلك ليكون رئيس حكومة “جديد”؟ بالطبع لا. وهو أول من يعرف ذلك.