في مشهدٍ لم يألفه العراقيون منذ انتهاء حقبة حكم الرئيس الراحل صدام حسين عام 2003، تسلم رئيس المخابرات العراقية مصطفى الكاظمي إدارة أهم سلطة في البلاد بعد اختياره رئيسا للوزراء ونيله ثقة البرلمان في 7 مايو/أيار الماضي.
وتوّلت خمس شخصيات مدنية إدارة رئاسة الوزراء قبل الكاظمي خلال عامي 2005-2020 وهم (إبراهيم الجعفري وإياد علاوي ونوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي) إلا أن الكاظمي هو الشخص الأمني الوحيد الذي وصل لهذا المنصب، ما أثار تساؤلات عدة ووضع علامات استفهامات متعددة حول إستراتيجيته في إدارة الدولة.
وأعاد هذا المشهد إلى أذهان العراقيين صور الحكم العسكري والأمني خلال فترة صدام حسين، الذي أعطى نموذجا أمنيا وعسكريا لإدارة البلاد بظهوره المستمر بالزي العسكري في أغلب النشاطات والمناسبات الوطنية، وفرضه ارتداء الزي ذاته على جميع الوزراء ومنهم المدنيون في الاجتماعات.
لم يكن صدام حسين عسكريا، لكن فترة حكمه امتازت بالقوانين العسكرية الصارمة تجاه من يخالف أوامره أو يخرج عن طاعته، إضافةً إلى خصومه من المعارضة، وفرض قبضته على الأجهزة الأمنية الحساسة بوضع أبنائه أو أشقائه أو أبناء عمومته تحسبا من أي انقلاب عسكري محتمل قد يطيح به عبر دعم خارجي.
سيناريو متكرر
المشهد نفسه يتكرر مع الكاظمي الذي بدأ خطواته الأولى باختيار شخصيتين عسكريتين لإدارة وزارتي الداخلية والدفاع، وهما عثمان الغانمي وجمعة عناد وهما من أبرز الضباط الكبار بمرحلة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ولم يحصل ذلك منذ 2003 بأن تتولى شخصيتان عسكريتان وزارتين أمنيتين خلال حكومة واحدة. كما كلف الكاظمي اللواء الركن قاسم محمد المحمدي بمنصب قائد القوات البرية، وسبقه بتعيين العميد يحيى رسول متحدثا رسميا باسم القائد العام للقوات المسلحة.
ومن الخطوات اللافتة الأخرى إعادة الكاظمي الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي إلى دائرة مكافحة الإرهاب وتعيينه رئيسا للجهاز بعد ترقيته، بعد أن نُقل بأمر من رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي إلى الإدارة وهي خطوة تعني تجميده، ووصف الكاظمي الساعدي بـ”الصديق” وهو الأسلوب نفسه الذي كان ينادي به صدام حسين الحزبيين بـ”الرفاق”.
ومن الحالات التي أعادت إلى أذهان العراقيين الصورة العسكرية لإدارة البلد، تهديد الكاظمي خلال زيارته لهيئة التقاعد العامة شقيقه الأكبر عماد عبر اتصال هاتفي بإجراءات رادعة إذا حاول استغلال اسمه في دوائر الدولة، فضلا عن ارتدائه زي الحشد الشعبي العراقي عند زيارته أخيرا لمقره في بغداد.
وكذلك توعد وزير الداخلية عثمان الغانمي في أول ظهور له بعد تكليفه بمنصبه، بقطع يد كل من تسول له نفسه في بيع المناصب في الوزارة ، بحسب تعبيره.
تجربة الانقلابات
وتعليقا على هذا الموضوع، يرى الباحث العراقي إدريس مال الله الزوبعي أن الحديث عن الحكم ذي النزعة العسكرية لم يعد يتلاءم مع روح العصر وحرية الشعوب لأن تجربة الانقلابات العسكرية ومحاولات التفرد بالحكم والقبضة العسكرية واتباع نظام الحزب الواحد، كانت شروعا نحو التسلط والاستبداد.
ويضيف الزوبعي أن الوضع العراقي لا يحتمل حكما عسكريا بعد أن أنهك حكم التفرد بالسلطة المواطن العراقي عموما ولم يعد مقبولا استنساخ التجربة العسكرية بالحكم بل إن الشارع العراقي أوضح موقفه الصريح بنزع الحكم من بين أيدي القوى السياسية التي جاءت خلف الدبابة الأميركية.
وسيكون الكاظمي -كما يرى الزوبعي- البديل الأفضل للدولة المدنية البعيدة عن الطابع العسكري رغم أنه جاء من مؤسسة أمنية حساسة، وبالتالي اتباع سياسة متوازنة تخرج العراق من حدود الصراع الأميركي الإيراني ومن يقف وراءه.
وعن مدى أهمية وحاجة العراق لإعادة العمل بالقوانين العسكرية الصارمة، يرى الأستاذ الجامعي المختص في علم النفس الدكتور كريم قره جتاني أن “البلد يحتاج حاليا إلى دكتاتور عادل لإدارة الحكم وسط الضوضاء والفوضى في البلاد، شرط أن لا يفرق بين فئة على حساب أخرى”.
ويرى قره جتاني أن “المحسوبية والحزبية والمناطقية هي التي تدير الدولة في العراق”، مؤكدا لـ الجزيرة نت أن “هناك حاجة ماسة لقانون ينظر بعين واحدة على الجميع، عندها نشهد استقرارا على مختلف الأصعدة مع تطوير القطاعات التربوية والتعليمية، ويصبح الضمير هو الحاكم لدى الفرد العراقي”.
كما أن استخدام القوة -كما كان يفعل صدام حسين- سيكون له تأثير مباشر على الحكم في البلاد ويصبح أكثر إيجابية من الديمقراطية التي فشلت وأصبحت مجرد شعار لا جدوى منه على أرض الواقع، بعدما جعل غياب القوة في إدارة الحكم من العراق أشبه ما يكون بـ”غابة” لمن يمتلك السلاح والسلطة الذي يتصرف كأنه فوق القانون على حساب الفقراء، بحسب الأكاديمي العراقي.
عسكرة الدولة
وفي المقابل، يرى الصحفي العراقي منذر آل جعفر أن الكاظمي لا يميل إلى المواجهة العسكرية أو عسكرة الدولة، وهو أضعف من مواجهة نفوذ الأحزاب والفصائل المسلحة، واعتبر أن تسمية مجموعة من الضباط في الوزارات والمؤسسات هو من أجل كسب عواطف الناس، ولكن الدولة العميقة ستبقى تتحكم برئيس الوزراء وبالحكومة بكاملها.
وعن مدى التشابه بين شخصية الكاظمي الأمنية مع الشخصية العسكرية لصدام حسين، يقول آل جعفر إنه لا يرى ثمة تشابه بينهما، فصدام حسين عند قدومه للسلطة كان حزب البعث الذي يترأسه يسيطر بالكامل على مفاصل الدولة، وهو الرجل الأول والأقوى في الحزب.
ويذهب الصحفي العراقي إلى أن وجود جيش قوي يكون ولاؤه للعراق، يمكّن رئيس الوزراء بصفته القائد العام للقوات المسلحة من القيام بالخطوات الإصلاحية وضرب الفاسدين وإعادة هيبة الدولة، ولكن باعتقادي -كما يقول آل جعفر- لا الكاظمي سيقوم بتلك الخطوات ولا الأحزاب ستسمح له ولا حتى المجتمع الدولي لأن الجميع يريد للعراق أن يبقى ضعيفا.
التفكير بانقلاب
وتفسر خطوات الكاظمي السريعة بشأن حصر السلاح بيد الدولة بعيدا عن نية القيام بأي انقلاب عسكري، وهو الشعار الذي فشل في تحقيقه جميع رؤساء الوزراء السابقين، إلا أن تحقيق هذا الهدف لن يتم إلا بمنع تسييس وزارتي الداخلية والدفاع.
ويقول الخبير العسكري إحسان قيسون إن الكثير من المليشيات التابعة للأحزاب تم حلها وتسجيل عناصرها على ملاك وزارة الداخلية سواء كانوا أفرادا أو ضباطا، والمشكلة الكبرى تكمن في أن هيكلية هذه الوزارة مؤسسة من المليشيات التابعة للأحزاب التي دخلت العراق بعد 2003.
وهذا ما دفع الكاظمي، بحسب قيسون، إلى اختيار شخصيتين عسكريتين معروفتين لإدارة الداخلية والدفاع لينجح في تحقيق هدف المتظاهرين بحصر السلاح بيد الدولة، مستبعدا في حديثه لـ الجزيرة نت احتمالية توجه الكاظمي إلى إدارة البلد عسكريا، فخلفيته إعلامية بحتة وتمتد لأكثر من عشرين عاما أكثر من كونها أمنية حتى وإن كان رئيسا لجهاز المخابرات الوطني وعمل فيه لأكثر من خمس سنوات تقريبا.