كتب منير الربيع في صحيفة “المدن” تحت عنوان ” انتهت حقبة المعارك وبدأ ترسيم النفوذ: عودة الحريري؟”: “لم يكن الردّ الإيراني مختلفاً عن ردّ حزب الله على استهداف الضاحية الجنوبية، قبل أشهر، بطائرتين مسيَّرتين. بُعيد عملية اغتيال قاسم سليماني، تسارعت الاتصالات الدولية للجم أي تصعيد. حملت طهران رايتين بيديها: راية الردّ لحفظ ماء الوجه واستعادة الهيبة المعنوية، وراية الاستثمار السياسي للحدث إلى أقصى الحدود. أصدقاء إيران الكبار، كالصين وروسيا، لم يصدرا أي موقف يدين اغتيال قاسم سليماني. البيانات تركزت فقط على أن ما يجرى يهدد الاستقرار في الشرق الأوسط، وينذر بالمزيد من التصعيد. إنه كلام ديبلوماسي معتاد في حالات كهذه. أما في السياسة العملية، فالموقف ينطوي على أن قرار الاغتيال أتى على مستوى كبير دولياً. والهدف منه طي مرحلة “الفتوحات العسكرية” والبدء بمرحلة جديدة سياسياً لتقاسم مناطق النفوذ.
ترسيم النفوذ
بُعيد اغتيال سليماني، بدأت حملات إيرانية ترفع شعار الانسحاب الأميركي من العراق، بينما الأصح سياسياً، هو أن القرار الأميركي بالانسحاب متخذ منذ سنوات. بدأ باراك أوباما جزءاً منه، وعاد بعد نشوء تنظيم داعش. دونالد ترامب لا يختلف عن هذه السياسة. والانسحاب هنا ليس المقصود فيه الرحيل الأميركي النهائي عن المنطقة، إنما الاحتفاظ بالتأثير ومناطق النفوذ، رغم سحب القطعات العسكرية الكبيرة، تماماً كما هي معادلة “الانسحاب الأميركي من شرق سوريا“. أي انسحاب علني وإعلامي غير كامل. وهذه الاستراتيجية الأميركية هي التي أمْلت القرار باغتيال سليماني، لفتح الصفحة الجديدة في المنطقة.
لا شك سيكون لهذا الاغتيال تداعيات كثيرة على المنطقة، خصوصاً في سوريا والعراق. أما لبنان، فسيبقى محيداً حالياً، طالما أن حزب الله صاحب الحظوة الأكبر فيه وضنين باستتباب الحال له. لذا، من المستبعد أن يبادر إلى أي تصعيد ميداني.
في العراق وسوريا، تشير المعلومات، إلى تحضّر حلفاء إيران لتنفيذ عمليات ضد أهداف أميركية على مدى متقطع وطويل، للإشارة إلى استمرار الصراع، بموازاة استمرار خوض معارك سياسية لترسيم مناطق النفوذ.
ترسيم مناطق النفوذ تجلى أولاً في زيارة فلاديمير بوتين إلى سوريا، التي اوحى الرجل من خلالها أنه حامي الأقليات، التي تدعي إيران أيضاً حمايتها. يد موسكو أقوى من ذراع طهران في سوريا. لكن ذلك لا يعني الخروج الإيراني من هناك، وسيبقى التكافؤ بين الطرفين. وما يهم طهران في مفاوضاتها هو مناطق نفوذها بالعراق ولبنان، حيث تمتلك أبرز قواها، وهي حزب الله، المحكم السيطرة على القرار السياسي اللبناني، وعلى الواقع العسكري فيه، ويمسك أوراق القوة التي تعني المجتمع الدولي، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والأمم المتحدة، ضمن نطاق عمل القرار 1701 على الحدود الجنوبية، وملف ترسيم الحدود، وملف النفط، وأمن إسرائيل. هذه الأوراق الأساسية التي سيتمكن الحزب وإيران من خلالها تكريس الدور والنفوذ في لبنان. مع التأكيد بأن اغتيال سليماني سيكون له تداعيات معنوية ورمزية وعسكرية على الحزب وبنيته الداخلية، نظراً للارتباط الوثيق بينه وبين الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله.
الحريري إلى واشنطن
هذه التطورات ستفرض على حزب الله، الانخراط أكثر في المعادلة الداخلية اللبنانية، لصالح تماهيها مع المشروع الإيراني، الذي سيهتم مستقبلاً بتكريس النفوذ وتثبيته، وغض النظر عن المعارك العسكرية، لأنها مرحلة انتهت (بمعزل عن التجاذب الذي قد يحصل عبر ضربات متنقلة في المنطقة). وتكريس النفوذ لا يمكن أن يتم بتقديم تنازلات في الداخل من قبل الحزب، بل التشدد أكثر سياسياً. وبدأنا فوراً في تلمسه مع بروز مطالب جديدة حول شكل جديد للحكومة اللبنانية قيد التأليف. كل الأجواء من محيط الحزب تفيد بأنه لا يمكن تسليم البلد لحكومة تكنوقراط، ولا بد من العودة إلى حكومة تكنوسياسية، وحدها ستكون قادرة على مواكبة المرحلة المقبلة. وهذا ما توضّح في كلام رئيس مجلس النواب نبيه بري، حول ضرورة تفعيل حكومة تصريف الأعمال، والتشديد على حكومة بمشاركة سياسيين، لأن الاختصاصيين لن يكونوا على قدر التحديات.
بهذه المعادلة، أصبح حسان دياب تفصيلاً، سواء تعرقلت مساعيه لتشكيل حكومته، أم تمكن من التأليف، فهو سيواجه السقوط فيما بعد، خلال فترة قصيرة، نظراً للتحولات الجديدة. ففي حالات مشابهة لا يمكن لحزب الله أن يذهب إلى تشكيل حكومة من لون واحد. وقد تلقف رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري هذا المعطى، وهو الذي سيزور واشنطن ليعقد لقاءات مع بعض المسؤولين الأميركيين، لعلّ ذلك يعيد فرض حسابات جديدة حول الحكومة وتركيبتها، يتوفر لها الغطاء السياسي والطائفي المطلوب.
المعادلة الأهم بالنسبة إلى الحزب حالياً هي العودة إلى لعبة التوازن الطائفي، التي سيكون فيها الأقوى والأكثر تحكماً واستفادة”.