في سياق سياسة رد الفعل الأمريكي على الهجمات التي تقتل جنودًا أمريكيين، تواصل الولايات المتحدة سياسة الرد العسكري “المحدود” على مواقع تابعة لكتائب “حزب الله” العراقي، وأحدث مظاهرها هو استهداف خمسة مواقع لهذه الكتائب جنوب بغداد، كربلاء، جرف الصخر والنجف (جنوب)، في 12 مارس/آذار الجاري، وهي تضم مخازن أسلحة تُستخدم لاستهداف القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابي.
وتشدد واشنطن على أنها لن تتسامح مع الجهات التي تشن هجمات على قواتها والقوات الحليفة لها في العراق.
واتخذ الصراع بين كتائب “حزب الله” العراقي والقوات الأمريكية طابعًا مختلفًا بعد هجوم صاروخي تعرضت له قاعدة عسكرية مشتركة للقوات العراقية والأمريكية قرب كركوك (شمال)، في 27 ديسمبر/ كانون أول الماضي، أسفر عن مقتل موظف أمريكي، وكذلك بعد الرد الأمريكي على مواقع تابعة للكتائب غربي العراق، قرب الحدود السورية، في 29 ديسمبر/كانون أول الماضي، ما أسفر عن مقتل عدد من قيادات الكتائب ومقاتليها.
لكن التصعيد الأكثر عنفًا كان باتخاذ الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قرارًا بتصفية كل من قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، عبر غارة جوية ببغداد، في 3 يناير/كانون ثاني الماضي.
والمهندس هو مؤسس الكتائب، في أبريل/نيسان 2007، وتتحدث تقارير عن أنه كان قائدها الفعلي منذ تأسيسها وحتى مقتله.
ونهاية فبراير/شباط الماضي، أدرجت واشنطن أحمد الحميداوي، الأمين العام للكتائب، على لائحة الإرهاب، بعد أكثر من عشر سنوات على تسمية هذه الكتائب كتنظيم إرهابي، عام 2009.
وخلال الشهر الجاري، تعرض معسكر التاجي، على بعد 30 كم شمال بغداد، لهجومين صاروخيين، الأول في 11 من هذا الشهر، وأسفر عن مقتل أمريكيين اثنين وبريطاني من العاملين في قوات التحالف الدولي، والهجوم الثاني بعد يومين وأصاب عددًا من الأمريكيين، ونفذته جماعة غير معروفة، أعلنت عن نفسها باسم “عُصبة الثائرين”، ويُعتقد أنها مرتبطة بالحشد الشعبي.
والهجوم الأخير، الذي يندرج ضمن الصراع الأمريكي الإيراني في العراق منذ نهاية أكتوبر/تشرين أول الماضي، هو الهجوم الثالث والعشرين في سلسلة هجمات تعرضت لها المصالح والقوات الأمريكية وقوات التحالف.
وتعوّل قيادات الحرس الثوري الإيراني كثيرًا على كتائب “حزب الله” في تنفيذ سياساتها بالعراق وسوريا، لقدراتها القتالية العالية وارتباطها الأيديولوجي بالمرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، حيث تدين الكتائب بما يعرف باسم “البيعة الشرعية” للمرشد الأعلى.
ووفقًا للموقع الرسمي لكتائب “حزب الله”، فإن هدفها هو “تحقيق حاكمية الإسلام، التي تمثل ولاية الفقيه الطريق الأمثل لتحقيقها”، في إشارة لمبدأ ولاية الولي الفقيه المعتمد رسميًا في نظام الحكم بإيران.
وتنضوي الكتائب تحت مسمى هيئة الحشد الشعبي، الذي تأسس بعد أحداث مدينة الموصل شمالي العراق عام 2014، وتضم 72 تشكيلًا مسلحًا ترتبط بمكتب القائد العام للقوات المسلحة العراقية، وهو نفسه رئيس الوزراء.
وقوات الحشد الشعبي هي إحدى مؤسسات الدولة الأمنية الرسمية، ولها تخصيصات من الموازنة العامة، لكنها تعمل باستقلالية عن وزارتي الدفاع والداخلية.
ويميل المتخصصون إلى تقسيم فصائل الحشد الشعبي إلى صنفين، هما فصائل ذات أجندة وطنية عراقية وغير مناهضة لإيران، وهي عادة فصائل غير مؤثرة بالمشهدين الأمني والعسكري مقارنة بالفصائل الأخرى.
ويُستثنى من الصنف الأول سرايا السلام، بقيادة رئيس التيار الصدري، مقتدى الصدر، حيث تمتاز بقاعدة واسعة في الوسطين الاجتماعي والسياسي، لكنها هي الأخرى لا تصطدم أو تعارض أو تناهض السياسات الإيرانية بالعراق أو المنطقة، خاصة مع وجود مقاتلين منها في سوريا كانوا يقاتلون بجانب قوات النظام السوري، حليف طهران.
أما الصنف الثاني من الفصائل، فهي الأكثر تأثيرًا في القرار العراقي السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي، والأكثر قوة وتنظيمًا وقدرات عسكرية وقتالية.
وهذه هي الفصائل الكبرى الحليفة لإيران، والتي تغلّب مصلحة طهران على المصالح العراقية، وتعطي الأولوية لتنفيذ السياسات الإيرانية بالعراق والمنطقة، وهي المعروفة باسم “الفصائل الولائية”، أي المرتبطة ببيعة “شرعية” مع خامنئي.
ومن أهم هذه الفصائل، كتائب “حزب الله” وحركة النجباء وعصائب أهل الحق وكتائب سيد الشهداء وكتائب الإمام علي وسرايا طليعة الخراساني، وهي الفصائل الرئيسية التي تشن الهجمات على قوات التحالف الدولي والمصالح الأمريكية بالعراق وسوريا.
وتتميز كتائب “حزب الله” عن غيرها من تشكيلات الحشد الشعبي بامتلاكها قدرات قتالية عالية اكتسبتها من عملها المسلح ضد قوات الاحتلال الأمريكي، منذ تأسيسها وحتى نهاية 2011، تاريخ الانسحاب الأمريكي من العراق.
كما أنها تمتلك قدرات عالية على تطوير وتصنيع واستخدام الصواريخ البالستية، بالتنسيق مع وحدات استخباراتية تابعة لها.
وتفيد تقارير (غير رسمية) بأن ما لا يقل عن سبعة آلاف مقاتل يتسلمون رواتبهم من هيئة الحشد الشعبي تتشكل منهم كتائب “حزب الله”، ويتوزعون على عدة كتائب مسلحة تنتشر غربي العراق على الحدود السورية، وفي منطقة جرف الصخر، 40 كم جنوب بغداد، ومناطق عراقية أخرى، إضافة إلى سوريا، حيث تمتلك أكثر من 1500 مقاتل.
وتؤكد تقارير غربية أنها تعمل باستقلالية كاملة عن الوحدات الأخرى المرتبطة بهيئة الحشد الشعبي.
وتضطلع كتائب “حزب الله” بالجهد الأكبر في الصراع غير المباشر بين واشنطن وطهران، اللتين اتخذتا العراق ساحة لتصفية حساباتهما عبر مواجهة “شبه مفتوحة” بين الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي من جهة وإيران، عبر القوات المحلية الحليفة لها، من جهة أخرى.
وخلال زيارتهم لطهران، بعد مقتل سليماني والمهندس، أعلنت قيادات الفصائل الحليفة لإيران، بدء شن هجمات ضد القوات الأمريكية (نحو 5 آلاف عسكري يعملون ضمن التحالف الدولي)، لإرغامها على الانسحاب من العراق.
ويُعتقد أن زيارة رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، الأخيرة للعراق ترتبط بشكل ما بالسياسات الإيرانية في التصعيد الأخير ضد القوات والمصالح الأمريكية لإخراجها من العراق، إضافة إلى احتمالات لعب دور معين كبديل عن سليماني، الذي كان يلعب الدور الأكبر في تسمية وفرض رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة في بغداد.
لكنّ واشنطن لا تزال تتبنى سياسة رد الفعل على الهجمات التي تتعرض لها قواتها ومصالحها، أو العمليات “الانتقامية”، حسب توصيف مسؤولين أمريكيين.
ومن المتوقع أن تشهد ساحة الصراع الأمريكي الإيراني في العراق تصعيدًا في حدة الهجمات التي تشنها القوات المحلية، الحليفة لإيران، في الفترة المقبلة، مع احتمالات لجوء الولايات المتحدة إلى سياسات جديدة تتخطى رد الفعل إلى سياسة أكثر “ردعًا” تهدف في النهاية إلى حماية الوجود الأمريكي في العراق، عبر تقويض القدرات الهجومية للفصائل الحليفة لإيران، خاصة كتائب “حزب الله”، من خلال ضربات استباقية.
ولا تمتلك الولايات المتحدة ما يكفي من القدرات الأساسية اللازمة لحماية جنودها ومصالحها في العراق ومنع هجمات القوات الحليفة لإيران، التي قتلت وأصابت عددًا من الجنود، وتحاول واشنطن لمنع ذلك مستقبلًا إعاة نشر قواتها، وتقليص أماكن تواجدهم في أقل عدد من القواعد “المشتركة” مع القوات الأمنية العراقية.
وأفادت تقارير، في 11 مارس/آذار الجاري، نقلًا عن مسؤولين أمريكيين، بأن واشنطن تعتزم إدخال منظومات دفاع جوي مضادة للطائرات المسيرة، ومنظومات أخرى مضادة للصواريخ البالستية، لحماية القوات والمصالح الأمريكية في العراق من الهجمات الإيرانية المباشرة “المحتملة”، إضافة إلى الهجمات المستمرة من جانب القوات الحليفة لطهران.
الأناضول