أعاد “الهروب الكبير” الذي نفذه الأسرى الفلسطينيون الستة من سجن “جلبوع” الشهر الحالي، مدينة جنين شمالي الضفة الغربية التي ينتمون إليها ومخيمها إلى الواجهة مجددا.
ونجح الأسرى الستة يوم 6 سبتمبر/أيلول الجاري في الفرار من سجن “جلبوع” الإسرائيلي شديد التحصين، قبل أن تعاود القوات الإسرائيلية اعتقالهم على فترات متباعدة بين 10 و19 من ذات الشهر.
وبعد مضي نحو عقدين على المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في جنين، توحدت الأجنحة العسكرية للفصائل غير آبهة للانقسام الفلسطيني بين الضفة وغزة المستمر منذ عام 2007 لحماية الأسرى الفارين، قبل إعادة اعتقالهم.
وفي أبريل/نيسان 2002 اجتاح الجيش الإسرائيلي مخيم جنين خلال عملية “الدرع الواقي”، وقتل 52 من سكانه، وفق تقرير للأمم المتحدة في حينه.
** عودة إلى 2002
وأسست وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأممية “أونروا” مخيم جنين عام 1953 ضمن حدود بلدية مدينة جنين، لإيواء لاجئين ينحدرون من منطقة الكرمل في حيفا.
وبعث العدوان الإسرائيلي على القدس وقطاع غزة في أبريل/نيسان ومايو/أيار الماضي، روح العام 2002 من جديد، وخرجت الفصائل مجتمعة تتوعد الاحتلال.
ومع نجاح الأسرى الستة في الفرار من سجن “جلبوع”، أعلنت الأجنحة العسكرية تشكيل غرفة عمليات مشتركة تتولى حماية الأسرى عند وصولهم إلى المخيم.
ومنذ مايو وحتى الآن استشهد 6 فلسطينيين خلال اشتباكات مسلحة مع الجيش الإسرائيلي في جنين وحدها، أغلبهم ولدوا عام الاجتياح أو قبله أو بعده بقليل.
من هنا فإن المخيم أعاد لملمة جراحه لينهض من جديد أسوة بطائر الفينيق (العنقاء) الخرافي، الذي تقول الأساطير اليونانية إنه يعيد إحياء ذاته في كل مرة يموت فيها.
فما الذي يجعل جنين “حالة خاصة”، وكيف شكلت مجزرة عام 2002 وقودا لجيل من الشباب يبحث عن الحرية؟.
** إرث نضالي
“جنين تتميز بوجود إرث نضالي تناقلته الأجيال لما يمثله المخيم منذ عام 2000 (اندلاع انتفاضة الأقصى) من حالة”، وفق ما يقول ابن المدينة الصحفي علي سمودي، في حديثه للأناضول.
ويضيف سمودي: “الصور والمشاهد التي تناقلتها الأجيال بعد معركة المخيم الأسطورية، رغم ارتكاب المجزرة، ساعدت الأجيال المتلاحقة على إكمال المشوار، بل وتعزيز روح المقاومة خاصة لدى الشباب”.
ويردف: “روح المقاومة هذه شهدت نقلة نوعية خلال معركة سيف القدس (عدوان مايو على غزة)، فظهر في المخيم مجموعات مسلحة شكلت امتدادا لكتاب شهداء الأقصى (محسوبة على حركة فتح)، وسرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي)، وكان أهم ما تبنته إضافة إلى المقاومة، منع الاحتلال من دخول مخيم جنين”.
ويرى أن ما تبنته تلك الأجنحة “لم يكن شعارا بل نفذته على أرض الواقع، فشكلت مجموعات وفرقا ولجانا سهرت وانتظرت دخول الاحتلال المخيم لمقاومته”.
ويضيف، أن “جيش الاحتلال لم يقتحم المخيم منذ شهور إلا مرتين الأولى شهدت مواجهات عنيفة جدا أرغمته على الانسحاب بسرعة، وفي الثانية تسلل متخفي تحت جنح الظلام عبر الوحدات الخاصة التي احتلت عمارة سكنية في موقع إستراتيجي يطل على المخيم ومدينة جنين”.
ويوضح أنه في المرة الثانية (أغسطس/آب) “لم يتنبه المقاتلون والأهل للكمين، فوصلت مركبات الاحتلال مشارف المخيم، فاندلعت مقاومة عنيفة جدا بالأسلحة النارية والعبوات المصنعة محليا، استشهد خلالها أربعة شبان برصاص الوحدات المتخفية”.
” ولم يكن استشهاد الشبان سوى شرارة جديدة أججت مشاعر الغضب والسخط لدى الفلسطينيين”، بحسب سمودي.
** نشوة الانتصار
أما “نفق الحرية”، في إشارة لنجاح الأسرى الستة في الهروب من سجنهم، فيقول سمودي إنه “أثار نشوة الانتصار وعزز روح المقاومة لدى الشبان”.
ويردف: “لذلك قرروا وبادروا وسارعوا (المسلحون) إلى تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشركة للمقاومة، والتي أعلنت النفير لاستقبال وحماية الأسرى الفارين والتصعيد والمقاومة ضد الاحتلال”.
ويتابع سمودي: “طوال الأسبوع الذي سبق اعتقال آخر أسيرين فارين (الأحد) كانت النار تطلق على الحاجز 3 مرات كل ليلة، ومع ذلك لم يدخل الاحتلال إلى المخيم”.
وخلاصة ما يراه الصحفي سمودي هو أن “ما يميز المخيم روح المقاومة واستعداده للنضال، والحاضنة الشعبية”.
** حضور الجهاد الإسلامي
من جهته يشير خضر عدنان، القيادي في حركة “الجهاد الإسلامي” للأناضول، إلى “دور التنوع الفصائلي في مخيم جنين والتميز التاريخي لحركة الجهاد الإسلامي فيه”.
ويضيف أن “عقيدة أبناء حركة الجهاد القتال حتى النفس الأخير جعلت العديد من الشهداء منارات في طريق المقاومة حتى النفس الأخير”.
ويشير عدنان، إلى “سهولة التقاء حركة الجهاد الإسلامي مع الآخر (الفصائل الأخرى)، ومحاولة التشبيك (التواصل) مع الكل”.
ولفت في هذا الصدد إلى مشاركة القيادي في “كتائب الأقصى” التي كانت قبل حلها تتبع لحركة “فتح” زكريا الزبيدي، في الفرار من سجن جلبوع مع أنه لم يشارك في حفر النفق.
وفيما إذا كانت إسرائيل ستكرر المحاولة وتدخل مخيم جنين لملاحقة المقاومين يقول عدنان: “لا نتوقع خيرا من هذا الاحتلال (..) لكن ارتدادات أي فعل من هذا النوع ستتعدى جنين إلى غزة والداخل الفلسطيني”.
وهنا يقول إن حجم التفاعل الفلسطيني مع الأحداث مؤخرا، وبفضل شبكات التواصل وكسر احتكار الجهات الرسمية لوسائل الإعلام “خلق وعيا جمعيا وتفاعلا أثر في مسار كثير من الأحداث في القدس وغزة، وهذا قد يتكرر إذا أقدم الاحتلال على أي مغامرة في جنين”.
** التنافس الشريف
أما القيادي خالد الحاج، الذي اعتقل عدة مرات بتهمة الانتماء لحركة “حماس”، فيقول للأناضول، إن جنين “تحولت إلى حالة خاصة وعاصمة للمقاومة منذ انتفاضة الأقصى”.
وأشار إلى “دور المحافظة في عمليات التفجير البشرية التي كانت تنطلق من المدينة لقربها من إسرائيل”.
ويلفت الحاج إلى “تأثير توحد الفصائل في غرفة عمليات مشتركة بقيادة الأجنحة العسكرية، وصمود المخيم أكثر من 22 يوما في الاجتياحات رغم الخسائر في تشكيل حاضنة للمقاومة”.
ويقول إن “أجهزة السلطة الفلسطينية حاولت مرارا اقتحام المخيم ونزع سلاحه، لكنها فشلت”، مبينا أن “بعض الفصائل لها دعم ومدد عائلي مما قوّى شوكتها”.
ويضيف الحاج أن “التهديد الدائم لمدينة جنين ومخيمها مرده قناعة الاحتلال بوجود عدد من المسلحين وهم خارج منظومة السلطة الرسمية”.
** حالة نضالية خاصة
وفي قراءته لـ “حالة جنين” يرى سعيد أبو معلا، المحاضر في الجامعة العربية الأميركية في المدينة، في حديث للأناضول، أنها “تمثل حالة نضالية، استنادا إلى إرثها النضالي”.
ويشير إلى مقولات بحق جنين مثل: “مخيم الصمود والأسطورة” و”عش الدبابير” المنتشرة بين أبناء المخيم “وتحديدا الجيل الشاب الذي ولد مع معركة المخيم”.
ويلفت المحلل الفلسطيني، إلى “نمو متزايد لحركة الجهاد الإسلامي في مخيم جنين، والذي ظهر خلال العدوان على غزة”.
ويقول إن “اغتيال ابن الحركة المطارد جميل العموري (10 يونيو/حزيران الماضي)، لم يكن كفيلا بتصفية أول مظهر للمقاومة تشكّل بعد العدوان على غزة”.
ويضيف: “بل حدث العكس حيث ينظم الشباب أكثر وانضموا لهذه الحالة المقاتلة، وخدم ذلك عمليةُ النفق (الفرار) التي نفذها ثنائي الجهاد (5 من الأسرى الفارين المعاد اعتقالهم) وكتائب الأقصى ممثلة بزكريا الزبيدي”.
ويتابع أن هذه الأحداث مجتمعة “منحت الحراك في المخيم بُعد المصير المشترك، حيث بدا مقاتلو فتح إلى جانب مقاتلي الجهاد”.
ويشير الأكاديمي الفلسطيني أيضا، إلى موقف المخيم من السلطة “وطبيعة العلاقة القائمة على الندية والتصارع، وهو ما عزز هذا الموقف النضالي المخالف لنهج السلطة”.
مع ذلك يرى أبو معلا أنه “لا يجب المبالغة في تضخيم هذه الحالة، مع أنها تشكل بذرة عظيمة لكونها تفتقد الحاضنة الشعبية والحزبية أيضا”.
ويستبعد أن تكون “أحزابا صلبة تقف خلف هؤلاء المقاومين الذين ينتمون لأحزاب فعليا، لكن الأحزاب لا تقوم بدورها تجاههم”.
ويخلص أبو معلا، إلى أن ما يجري بجنين ومخيمها “دليل على أن بذرة المقاومة موجودة، وتستند لتاريخ عظيم، في ظل واقع يشهد انسدادا في كل شيء، وبالتالي هي تجلٍ مضيء في محيط مظلم”.