جاب المتظاهرون شوارع معظم المدن الكندية كجزء من مسيرة للاحتفال في اليوم الوطني للحقيقة والمصالحة.
و في مونتريال وتجمع مئات الأشخاص بعد ظهر يوم السبت عند Mount Royal قبل أن يسيروا إلى ساحة Place du Canada في وسط مدينة مونتريال.
كما تجمع المتظاهرون، الذين كان معظمهم يرتدون اللون البرتقالي، لتسليط الضوء على نضالات السكان الأصليين وحقوقهم وتكريم ذكريات ضحايا المدارس الداخلية.
من جانبها، قالت آن دير، عضو مجلس إدارة Resilience Montreal، التي نظمت المسيرة: “آمل أن يفهم عامة السكان أننا هنا للحديث عن فترة مروعة في التاريخ الكندي، والطريقة التي تعاملت بها كندا مع السكان الأصليين.. إنها فترة مظلمة مررنا بها، وإذا لم نفعل ذلك ونتعلم من ماضينا، سوف نكرره”.
حاكمة كندا العامة
دعَت حاكمة كندا العامة ماري سايمن ( أول حاكمة عامة من السكان الأصليين ) القيِّمين على النظام التعليمي في كندا إلى إيلاء المزيد من الأهمية لتاريخ الشعوب الأصلي ولغاتها و”تقديم القصة كاملة”.
وقد أدلت سايمن بموقفها في مجلس العموم الكندي السبت بمناسبة “اليوم الوطني للحقيقة والمصالحة” (National Day for Truth and Reconciliation)، الذي جُعِلَ مناسبة رسمية لِلحاظ الأضرار التي ألحقها نظام المدارس الداخلية في كندا بالشعوب الأصلية .
سايمن أشارت إلى أنها كثيراً ما تُسأل عن موقفها بالنسبة للمصالحة في خلال الجولات التي تقوم بها، مضيفةً أن الكلام “يجب أن يطبَّق وإن كان تصحيح الأمور معقَّداً، فسدّ الثغرات الموجودة بين مناطق الشعوب الأصلية والكنديين الباقين – أكان ذلك على صعيد البنى التحتية والرعاية الصحية أو التعليم – يحتاج إلى مجهود كبير”.
واعتبرت سايمن أن “التقدم الكبير الذي أحرزته الحكومة حتى الآن في مسائل أهم لا يعني أنَّ الحكومة تقدمت في عملها لتحسين أحوال الشعوب الأصلية”.
ترودو من جهته قال إن يوم الحقيقة والمصالحة يتطلب من “كل الكنديين أن يواجهوا حقيقةَ كَون ماضيهم مخالِفاً لما كان يجب أن يكون عليه”، وأضاف: “يريد كُثر أن نتجاهل الماضي كلياً لأنهم يشعرون أننا – بحديثنا عن الحقيقة والمصالحة وإحياء هذا اليوم – نقلل من شأن بلدنا”.
وقال ترودو: “يجب ألا ننسى أبدا الماضي والمظالم التي ارتكبت ضد السكان الأصليين في المدارس الداخلية، فضلا عن الصدمة بين الأجيال التي لا تزال قائمة حتى اليوم”.
وأردف قائلا: “في الوقت الحالي، مع تزايد الإنكار للأسف، أصبح الكشف عن الحقيقة كاملة أكثر أهمية من أي وقت مضى”.
زعيم المحافظين بْيير بوالييفر قال إن المناسبة “يوم مميز جداً بالنسبة لجميع الكنديين كي يراجعوا جيداً أخطاء الماضي، ويدعموا المصالحة، ويكرِّموا الشعوب الأصلية في أرجاء كندا”.
وكذلك رأى زعيم الديمقراطيين الجدد جَغميت سِنغ أن “لا بد من الاعتراف بهذا التاريخ كي نؤمّن مستقبلاً زاهراً لجميع أولادنا”.
يُشار إلى أنّ المدارس الداخلية السابقة التي اكتُشفت في مواقعها قبور الأطفال كانت تتبع نظام المدارس الداخلية للسكان الأصليين الذي أرسته الحكومة الفدرالية أواخر القرن التاسع عشر. وأوكلت الحكومة مهمة إدارة تلك المدارس إلى الكنائس الكاثوليكية والأنغليكانية والمتحدة (بروتستانتية). وأغلقت آخر واحدةٍ من تلك المدارس أبوابها عام 1996، وكانت في مقاطعة ساسكاتشيوان في غرب البلاد.
يذكر أن البابا فرنسيس جاء إلى كندا الصيف الماضي حيث قال إنه تلقى كـ’’صفعة على الوجه‘‘ شهادات ضحايا العنف من سكان كندا الأصليين في المدارس الداخلية التي أدارتها الكنيسة , وكان رئيس الكنيسة الكاثوليكية قد أمضى ستة أيام في هذه الرحلة التي كان قد وصفها قبل البدء بها بأنها ’’حجّ تكفير عن الذنوب‘‘.
والتقى البابا في جولته الكندية بممثلي الأمم الأُوَل والخلاسيين (Métis) وشعب الإنويت وبأشخاص عاديين من هذه الشعوب، وطلب منهم المغفرة عمّا سمّاه ’’الشر‘‘ الذي ارتكب في المدارس الداخلية.
كما طلب المغفرة عن ’’الاعتداءات الجنسية على القاصرين والضعفاء‘‘ التي ارتكبها أعضاء في الكنيسة الكاثوليكية في كندا.
و قال البابا أن سماعه لأشخاص مسنين فقدوا أطفالاً ولا يعرفون مكانهم‘‘ كان ’’لحظة مؤلمة‘‘، ولم يشر البابا في خطابه إلى ’’عقيدة الاكتشاف‘‘ التي بموجبها سمحت الكنيسة لنفسها بفرض سيادتها على شعوب لم تكن مسيحية، كالسكان الأصليين.
هذه العقيدة بحسب تقرير نشره راديو كندا أتاحت تبرير ’’الاستلاب الاستعماري‘‘ للأمم الأُوَل والخلاسيين وشعب الإنويت، من الناحيتيْن القانونية والأخلاقية، وفقاً لجمعية الأمم الأُوَل في كندا (AFN / APN).
إلّا أنّ البابا أشار في خطابه إلى ’’ذهنية الاستعمار (…) التي لا تزال حاضرة لغاية اليوم‘‘ والتي تتجلى في أشكال مختلفة . وهذه الذهنية ’’تهدد تقاليد الناس وتاريخهم وروابطهم الدينية بمحوها الاختلافات وتركيزها فقط على الحاضر وإهمالها الأكثر ضعفاً وهشاشةً‘‘.
يذكر أنه أقيمت أكثر من 139 مدرسة داخلية في كندا استقبلت حوالي 150 ألفاً من أطفال السكان الأصليين ابتداءً من عام 1870 وحتى تسعينيات القرن الفائت.
وكان العديد من الأطفال ضحايا أعمال عنف في تلك المدارس، ومات منهم ما لا يقل عن ستة آلاف بسبب المرض أو سوء التغذية أو الإهمال أو التعذيب ، فيما وصفه البابا بـ’’الإبادة الجماعية‘‘ بحق السكان الأصليين .
إبادة ثقافية
اتبعت الحكومة الكندية سياسة الإبادة الثقافية من أجل إعفاء نفسها من التزاماتها القانونية والمالية تجاه السكان الأصليين، والسيطرة على أراضيهم ومواردهم.
و طورت كندا نظامًا يحاكي المدارس في الولايات المتحدة والمستعمرات البريطانية؛ إذ تستخدم الحكومات الاستعمارية المدارس الصناعية الكبيرة لتحويل أطفال الفقراء والسكان الأصليين إلى كاثوليك وبروتستانت، وتدريبهم ليكونوا «عمالًا جيدين»، واستُخدمت هذه المدارس في أيرلندا، وجنوب أفريقيا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وكذلك في السويد، وسيلةً للمستوطنين الجدد للمطالبة بالأراضي التي يعيش ويعمل بها السكان الأصليون. اعتمدت كندا هذا النموذج من أجل فرض تبني التقاليد واللغات وأساليب الحياة الأوروبية الكندية المسيحية على السكان الأصليين.
المدراس الداخلية الكندية – المصدر: مكتبة ومحفوظات كندا 1927
أخذت وخطفت الحكومة أكثر من 150 ألف طفل من أطفال السكان الأصليين قسرًا، وعندما حاول أهاليهم التمسك بهم أو إخراجهم من المدارس واجهوا الاعتقال، وحظرت المدارس على الأطفال التحدث بلغاتهم أو الاعتراف بتراثهم وثقافتهم الأصلية، وعوقب الأطفال بشدة عند خرق قواعد المدرسة الصارمة. تحدث الطلاب السابقون في المدارس السكنية عن انتهاكات مروعة على أيدي موظفي المدارس السكنية؛ شملت انتهاكات جسدية، وجنسية، وعاطفية، ونفسية.
مدارس تعليمية أم معسكرات اعتقال؟
كان الغرض من المدارس الداخلية هو القضاء على جميع جوانب ثقافة السكان الأصليين. فقد قصوا شعر الطلاب، وأرغموهم على خلع ملابسهم التقليدية وارتداء زيٍّ موحد، وغالبًا ما كان يستخدم موظفو المدرسة الأرقام للإشارة إلى الطلاب بدلًا من أساميهم، بالإضافة إلى ذلك، جرى فصل الأولاد عن البنات، حتى إن الأخوة والأخوات نادرًا ما قابلوا بعضهم بعضًا، ما أدى إلى إضعاف الروابط الأسرية.
بالإضافة إلى ذلك، مُنع الطلاب تمامًا من ممارسة عادات أو تقاليد السكان الأصليين، أو التحدث بلغاتهم الأصلية، رغم أن العديد من الأطفال لا يعرفون أي لغة أخرى، وعوقب المخالفون بأساليب قاسية، منها الوخز بالإبر في اللسان، وجرى حصر كتابة الرسائل للأهل باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، رغم عدم قدرة الكثير من آباء الأطفال وأمهاتهم على قراءة خطاباتهم.
صورة لعمل الفتيات بالمدراس السكنية الكندية. المصدر: مكتبة ومحفوظات كندا
لم يحصل طلاب المدارس السكنية على التعليم نفسه الذي يحصل عليه عامة السكان في نظام المدارس العامة؛ إذ كان المنهج الذي يدرسونه يرتكز على تعلم الطلاب القراءة والكتابة إما باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وأساسيات الرياضيات والتعاليم المسيحية. بالإضافة إلى أن معظم المعلمين كانوا غير مؤهلين.
ونظرًا إلى ضعف التمويل القادم من الحكومة، اضطر الطلاب لقضاء نصف يومهم في العمل بصيانة المباني المدرسية، والزراعة ، والنجارة، والبناء. واضطرت الفتيات للعمل بالطبخ والتنظيف، والخياطة وغسيل الملابس.
انتهاكات جنسية واعتداءات جسدية
كانت الانتهاكات منتشرة على نطاق واسع؛ تعرض الأطفال للضرب والحبس في أماكن صغيرة، والتقيد والربط بالسرير، وعُوقب بعضهم بالوخز بإبر في ألسنتهم بسبب التحدث بلغاتهم الأصلية، وذكر موقع «سي بي سي»، أن بعض المدارس أجرت تجارب غذائية على الطلاب الذين يعانون من سوء التغذية، في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي بمعرفة الحكومة الفيدرالية، بالإضافة إلى تعرض العديد من الطلاب للاعتداء الجنسي من قبل الموظفين أو طلاب آخرين.
«اغتُصبت بشكل متكرر بغرفة الخزانات، كنت أتمنى أن يأتي أحد ليتفقدني، لكن لم يأت أحد أبدًا. أعتقد أن جميع الأطفال تعرضوا للاغتصاب مثلي» *شهادة أحد الناجين من المدارس السكنية
وعندما قُدمت بلاغات الاعتداء الجنسي، كان رد المسؤولين الحكوميين والكنيسة، في أحسن الأحوال، غير كافٍ. ونادرًا ما تم الاتصال بالشرطة، وحتى إذا قرر مسؤولو الحكومة أو الكنيسة أن الشكوى تستحق، فغالبًا ما كان رد الفعل إقالة الجاني، وفي أوقات أخرى، سمحوا للمعتدي بالاستمرار في التدريس.
أدت هذه الانتهاكات، إلى جانب سوء الأحوال المعيشية، وعدم كفاية الغذاء، وسوء الرعاية الصحية، إلى ارتفاع عدد الوفيات بشكل مروع. في عام 1907، أفاد المفتش الطبي الحكومي بيتر برايس بأن 24% من أطفال السكان الأصليين يموتون في المدارس الداخلية. ولا يشمل هذا الرقم الأطفال الذين توفوا في المنزل، حيث كان يجري إرجاع كثير من الأطفال إلى منازلهم عند سوء حالتهم الصحية. وذكر برايس أن نسب الطلاب الذين توفوا بعد خروجهم من المدارس الداخلية بفترة قصيرة تتراوح بين 47% إلى 75%. وأشارت بعض التقديرات إلى أن الوفيات كانت أكثر من 6 آلاف شخص، وأشارت تقديرات أخرى إلى أن إجمالي الوفيات بلغت 18 ألفًا.
طوابع بريدية جديدة
كشف بريد كندا عن أربعة طوابع جديدة لتكريم الناجين من المدارس الداخلية ,و تم الكشف عن الطوابع يوم الخميس الماضي في مركز Woodland الثقافي في Brantford بأونتاريو، الذي تأسس عام 1972 بعد إغلاق مدرسة معهد Mohawk الداخلية.
وتحتوي الطوابع على صور أرشيفية من أربع مدارس داخلية مختلفة، بما في ذلك مدرسة Kamloops السكنية في Kamloops ببريتش كولومبيا، ومدرسة Île-à-la-Crosse الداخلية في Île-à-la-Crosse بساسكاتشوان، ومدرسة Sept-Îles الداخلية في Sept-Îles بكيبيك، ومدرسة Grollier Hall في Inuvik بالأقاليم الشمالية الغربية.
وقال بريد كندا في بيان صحفي إن هذه الطوابع هي تذكير بـ “الخوف والوحدة والألم والعار” الذي عانت منه أجيال من أطفال السكان الأصليين داخل هذه المؤسسات التي أنشأتها الحكومة الفيدرالية والكنيسة.
وأضاف “الطوابع هي بمثابة وسيلة لكشف الحقيقة حول نظام المدارس الداخلية في كندا للمساعدة في دعم عملية المصالحة، وفي نهاية المطاف، التعافي”.
To read the article in English press here