تعد الغيرة بين الأزواج، مثل ملح الطعام، فإذا زادت عن حدها فسد الطعام كله، وإذا كانت بالقدر المناسب زادت من حلاوة العلاقة الحميمية بين الزوجين، وساعدت على دعم أوصر المحبة بينهما، فهل الغيرة خلق محمود، أم أنها شر كلها؟ أم أن هناك أنواعًا مختلفة من الغيرة؟.
في موسوعته القيمة عن “تحرير المرأة في عصر الرسالة”،يشير الكاتب الراحل عبد الحليم أبو شقة إلى ما ورد عن أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول: “من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة”. [رواه أبو داود وهو حسن].
ماهي الغيرة؟
الغيرة هي حالة من هيجان المشاعر الغاضبة حرصا على الحبيب من أن يضيع من بين أيديه، وهي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين.
والغيرة المحمودة المشروعة من جانب الرجل؛ هي نتيجة مشاركة غيره من الرجال الأجانب على زوجته له فيما أحله الله له من زوجته، برؤية وجهها وكفيها، أو محادثتها مما به اختصاص الزوج.
أنواع الغيرة
أولا: الغيرة المحمودة وهي ما كانت في ريبة ومثالها: – وروى مسلم عن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه والله أغير مني.
(وفي رواية للبخاري: ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين).
فالغيرة هنا كانت محمودة، لكن المشكل ما يترتب عليها من فعل توقعه السائل من نفسه، لكنها زادت عن الحد إذ دفعت إلى قول ما لا ينبغي أن يقال، وربما تدفع رجلاً آخر إلى فعل ما لا ينبغي وهو قتل الزاني، بينما الشارع وضع ضوابط لا تبيح قتل الزاني دون أربعة شهود، فهناك الملاعنة سبيلاً لفض العلاقة الزوجية مع خيانة لم يأت معها الزوج بأربعة شهداء، ولا ينفرد الزوج بالقتل حفظاً للدماء من أن تضيع بسوء فهم أو لبس.
ثانيا: الغيرة المذمومة وهي ما كانت في غير ريبة، ومثالها: – عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يومًا: ألا أحدثكم عني وعن أمي. قال: فظننا أنه يريد أمه التي ولدته. قال: قالت عائشة: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: بلى. قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدًا وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج ثم أجافه،) رويدًا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر، فأحضرت فسبقته فدخلت. فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: ما لك يا عائش حَشْيا رابية؟ قلت: لا شيء. قال: لتخبريني أو لَيُخْبِرَنِّي اللطيف الخبير. قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فأخبرته. قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم. فَلَهَدَني في صدري لَهْدَة أوجعتني. ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله! قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم. قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي.
فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون. [رواه مسلم].
و عن أبي سعيد الخدري قال: كان فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأنصاف النهار يرجع إلى أهله، فاستأذن يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، قالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح.. [رواه مسلم].
الغيرة الزائدة
وهي غيرة تزيد قدرًا ما عن حد الاعتدال، وهذه ينبغي أن يترفق في معالجة آثارها، وينبغي أيضًا اجتناب مثيراتها، هذا من جانب الصاحب المعافى.
أما الطرف المبتلى فعليه أن يبذل جهده في ضبط مشاعره قدر الإمكان، كما عليه ضبط سلوكه حتى لا يصدر منه ما يخالف الشرع. و
وكان عمر بن الخطاب من أصحاب الغيرة الزائدة، فعن ابن عمر قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد. فقيل لها: لِمَ تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني: قال: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”. [رواه البخاري] .
ضبط عمر غيرته الزائدة فلم يمنع زوجته من الذهاب للمسجد التزامًا منه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”.
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيتني دخلت الجنة.. ورأيت قصرًا بفنائه جارية. (وفي رواية: فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك (فوليت مدبرًا)، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟! [رواه البخاري ومسلم].
تعلم الغيرة من النبي
وينبغي أن يتعلم الزوجان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتعرضان قدر الإمكان لما يثير الغيرة الزائدة .
فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: .. وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ. فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: إخ إخ. ليحملني خلفه، فاستحيين أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتكن فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. [رواه البخاري ومسلم].
مروءة الزبير كادت أن تتغلب على غيرته الزائدة، وذلك عندما قال: “والله لحملك النوى على رأسك كان أشد علي من ركوبك معه” ويوضح هذا المعنى الحافظ ابن حجر بقوله: أي كان ركوبها أخف مما تحقق من تبذلها بحمل النوى على رأسها من مكان بعيد؛ لأنه قد يتوهم خسة النفس ودناءة الهمة.. ولكن كان السبب الحامل على الصبر على ذلك، شغل زوجها بالجهاد وغيره.. فكانوا لا يتفرغون للقيام بأمور البيت بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم، ولضيق ما بأيديهم عن استخدام من يقوم بذلك عنهم.
وعن أسماء قالت: .. فجاءني رجل فقال: يا أم عبد الله ، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. قالت: إني إن رخصت لك أبىَ ذلك الزبير، فتعال فاطلب إليَّ والزبير شاهد. فجاء الرجل فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. فقالت: ما لك بالمدينة إلا داري! فقال لها الزبير: ما لك أن تمنعي رجلاً فقيرًا يبيع. فكان يبيع إلى أن كسب. [رواه مسلم].
وهنا نرى أسماء تعمل الحيلة لمعالجة غيرة زوجها، ونرى الزبير في الوقت نفسه يغلب حب عمل المعروف على مشاعر الغيرة.
الغيرة المعذورة
وهذه الغيرة يعذر صاحبها ما لم يفعل حرامًا، أي يُغَضُّ الطرف عن الصغائر والهفوات التي تصدر منه. ومن أمثلتها: غيرة المرأة من الزوجة السابقة: – عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها. وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد. [رواه البخاري].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك. فقال: اللهم هالة، قالت: فغرت. فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريض، حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها؟! [رواه البخاري ومسلم].
هنا عذر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وتغاضى عما قالته في حق خديجة. غيرة المرأة من ضَرَّتها – عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام. فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت. فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيها. [رواه البخاري ].
هنا ألزمت الغيرة بضمان ما أتلفته، ولم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله: غارت أمكم. – عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب ابنة جحش ويشرب عندها عسلاً. (وفي رواية: فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغرت) فتواصيت أنا وحفصة: أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني لأجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس، شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش ولن أعود له، (وفي رواية: فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا) فنزلت: (يا أيها النبي، لِمَ تحرم ما أحل الله لك) إلى : (إن تتوبا إلى الله) لعائشة وحفصة. (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) لقوله: بل شربت عسلاً. [رواه البخاري ومسلم ].
ومن الغيرة المعذورة غيرة المرأة من شروع زوجها في خطبة أخرى: عن المسور بن مخرمة قال: إن عليًّا خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا عليّ ناكح بنت أبي جهل. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد.. وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها.. (وفي رواية ثانية: وإني أتخوف أن تفتن في دينها.. وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حرامًا) (وفي رواية ثالثة: يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها). [رواه البخاري ومسلم].