كتب منير الربيع في “المدن”: يعمل الرئيس سعد الحريري على إجراء مراجعة سياسية، لكل مواقفه السابقة والمنعطفات التي مرّ فيها. فهو راهن على حلفائه الأميركيين والخليجيين لتحقيق انتصار سياسي، فوصل إلى حائط مسدود. ثم عمل على إدارة ظهره لهؤلاء الحلفاء، من غير قطيعة، مقابل رهانه الحقيقي والجدي والواقعي على العلاقة مع حزب الله والتيار الوطني الحرّ، فوصل أيضاً إلى حائط مسدود، دفعه إلى الخروج من التسوية الرئاسية، والتحضير لإطلاق معارضة سياسية.
سبل العودة
يعمل الحريري حالياً على نسج معارضة سياسية، لا تعيد إحياء الانقسام العمودي الذي كان في لبنان قبل سنوات. جدد العلاقة مع وليد جنبلاط، ويستعد لإصلاحها مع سمير جعجع والقوات اللبنانية. وهو بأمس الحاجة إلى دعم معنوي عربي، وتحديداً خليجي سعودي إماراتي، بعد سوء في العلاقة تجلّى في سنوات التسوية الرئاسية. إثر خروجه من التسوية بدأ الحريري يتلقى إشارات إيجابية من دول الخليج. وبعد موقفه في 14 شباط وحضور السفيرين السعودي والإماراتي، تحرّكت الاتصالات الإيجابية على خطّ تحسين علاقاته العربية. وهنا تشير مصادر متابعة إلى أن الحريري يستعد لزيارة دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعدها المملكة العربية السعودية. لن يحصل في هاتين الزيارتين على دعم مالي، إنما سيكون التركيز على الوضع السياسي، والدعم المعنوي. وبعدها، لكل حادث حديث.
لم يقفز الرئيس سعد الحريري من مركب التسوية الرئاسية والعلاقة الحميمة مع ميشال عون وجبران باسيل إلا ليعود. اكتشف بعض الأخطاء في التسوية، ومنها تسليم القرار لصالح رئيس الجمهورية أو رئيس التيار الوطني الحر. ولذلك وجد الفرصة في ثورة 17 تشرين لمحاولة تعديل شروطه وتحسينها. حاول في المرحلة الأولى فرض ما يريده من شروط، عبر وضع الفيتو على مشاركة باسيل وعدد آخر من الوزراء. وعاد بعدها ليطالب بالصلاحيات الاستثنائية، في تكرار لتجربة والده في التسعينيات، لكنه اصطدم برفض حزب الله المطلق لهذا المطلب.
كان الحريري يريد من مطالبته بالصلاحيات الاستثنائية إعطاء القوى الخارجية انطباع أنه لا يزال القوي داخل لبنان، وقادر على الإيفاء بالتزاماته. وفي الوقت نفسه، بحث مع الحزب في هذا الأمر، على أن يرعى له مصالحه وثوابته. لكن حسابات الحزب مختلفة، خصوصاً أنه على قناعة بأن منح الحريري هكذا صلاحيات، سيعتبر انتصاراً للحريري عبر رهانه على المتظاهرين. وسيكرس الحزب نقطة ضعف لديه ولدى حلفائه وخصوصاً الحليف المسيحي القوي. بعد اصطدام مساعيه هذه بجدران رفعها حزب الله، فضّل الحريري خيار الاستقالة وعدم العودة. لكنه لم يقطع خطوط التواصل والاتصال مع الحزب على الإطلاق، حتى أن التواصل مستمر بين الطرفين.
مسار جديد
يعرف الحريري أن حزب الله هو قوة أمر واقع موجودة في لبنان، ومعاداته على طريقة بين عامي 2005 و2009، لن تؤدي إلا إلى خسارة الحريري مقابل قطف الثمار من قبل الآخرين. لذلك، يحرص على عدم إحراق المراكب مع الحزب، لانه يعلم أن الوضع سيتغير في النهاية، وستدخل إيران في مفاوضات مع الأميركيين، وحزب الله بالحد الأدنى لن يهزم وإن اضطر إلى تقديم المزيد من التنازلات حول القرار السياسي والتركيبة السياسية والسلطوية والمؤسساتية في لبنان. الحريري الآن مصاب بـ”تروما” الخروج من السلطة، على غرار ما حصل معه في العام 2011. هو لا يمانع مواجهة ميشال عون و”كسر الجرة” معه. لكن ذلك من المحرمات في علاقته بحزب الله، ويعتبر أنه لن يتمكن من العودة من دون العلاقة الجيدة مع الحزب.
حزب الله بدوره يعرف أن هناك أموراً كثيرة ستتغير في لبنان، وقد تلقى أكثر من رسالة دولية، بأنه ما بعد مرحلة قاسم سليماني، سيكون التوجه في المنطقة إلى التسويات السياسية، أو انحسار الصراع في بعده السياسي دون العسكري. وهذا سيوجب على الحزب وإيران من خلفه تقديم تنازلات، عندما يحين موعدها. ومن أبرز التنازلات في لبنان، هي عدم الركون إلى استمرار معادلة تحكم حزب الله بالرؤساء الثلاثة، أي أن يكون رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة موالين لإيران. والنظرة الدولية التي تكونت عن تجربة الحريري بعد التسوية الرئاسية، هي أن الرجل أصبح في عداد إيران وليس خصومها، خصوصاً أنه لم يتمكن من فعل أي شيء يتعارض مع المصلحة الإيرانية، ويلبي المصلحة أو الرؤية الخليجية. ولذا، قيل الكثير عن حجم الغضب السعودي قبل أيام من أزمة استقالته من الرياض، إثر لقائه علي أكبر ولايتي في السراي الحكومي قبل سفره إلى السعودية.
في اختيار الرؤساء
خرج الحريري من التسوية. تشكلت حكومة حسان دياب. وحزب الله يستعد لمراعاته إلى أقصى الحدود، طالما أن الرجل كان يراعي الحزب في كل حساباته. وكأن الطرفين على يقين بأنه لا بد من العودة إلى التشارك في السلطة معاً. الفارق أن الشروط الدولية المفروضة على لبنان من الحكومات وصولاً إلى صندوق النقد تتلاقى مع ما كان يسعى الحريري إلى تحقيقه، على أن تكون هذه الإصلاحات – إذا ما تحققت – مدخلاً جذرياً لإحداث تغيير سياسي في البلد، يسعى الحريري مع الحزب إلى أن يعودا بموجبه، بشرط أن لا يدخل الحريري في معارضة عنيفة بوجه حكومة حسان دياب. وهذا ما انطوى عليه تحذير نصر الله الموجه له بأنه لا يمكن لأحد أن يفكر بالتشويش على الحكومة ويضغط عليها، ويسعى إلى تطويقها، لحصول الانهيار.. وبعدها يأتي على حصان أبيض. أراد نصر الله القول للحريري إنه يجب أن يكون شريكاً في تحمل المسؤولية حالياً، كما سيكون شريكاً مستقبلاً.
التعديل الأساسي الذي سيطرأ سياسياً في المرحلة المقبلة، هو إدراج تغيير حقيقي وجدي في آلية اختيار الرئاسات الثلاث في لبنان، وعدم وضعها في خانة واحدة سياسياً، أي خانة المحسوبين على إيران. فهكذا معادلة لم تعد مقبولة محلياً وخارجياً. وحزب الله سيكون أمامه فرصة أن يكون شريكاً في تكوين السلطة، عبر رئاسة مجلس النواب وقوته، ولكن بالتشارك مع رئيس للحكومة من خارج الفلك الإيراني، فيما الأساس سينصب على رئيس الجمهورية لعدم تكرار تجربة انتقاء رئيس للجمهورية موالٍ لإيران أو لحزب الله، بشكل صرف، إنما إعادة الاعتبار إلى الرئيس التوافقي، الذي يكون مقبولاً من مختلف الأفرقاء، المحلية والخارجية.