عاش الصحابة في حادث الهجرة التضحية في أروع صورها، وسجل القرآن لهم فيها روعة الفداء، وصدق التضحية، وقوة الإيمان، وثبات اليقين.
لقد عاشوا هذا المعنى في كل حركاتهم وسكناتهم، وبذلوا في سبيل دينهم الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، وبذلوا الجهد الجهيد والوقت الثمين. لم تشغلهم الأموال والأعمال، ولا الزوجات والأولاد عن الخروج في سبيل الله، ونصرة الدين، ضحوا بكل شيء ـ نعم بكل شيء ـ حتى تبقى راية الإسلام خفاقة، ولتبقى كلمة التوحيد تتردد في جنبات هذا الكون.
زوج يفارق زوجته، وأب يفارق أبناءه، وابن يفارق والديه، ورجل يبيع نفسه لله ، وآخر يقدم ماله.. وكلهم جميعا تركوا والديار والأوطان، والأموال والأقارب والخلان.. كل ذلك في سبيل رضا الرحمن وإعلاء كلمة الواحد الديان.
فيا رسول الله طـب نفــسا بطائفة .. باعـوا إلى الله أرواحــا وأبدانــا
دفعوا ضريبة نصر الله من دمهم .. والناس تزعم نصر الدين مجانا
باعوا الدنيا لأجل الدين:
مصعب ابن عمير: شاب غني رخي باع الغنى والقرابة، والاستقرار والثروة، والمال والجاه والراحة، والحياة الهانئة الرخية، وارتضى الحرمان والمشقة والأذى والبلاء، حتى تحشف جلده بعد أن كان أنعم فتى في مكة كلها، تضرب بنعومته الأمثال، وبعد أن كان أغنى فتى في مكة، وأكثرها دلالا، وأبهاها جمالا، وأغناها جاها ومالا، إذا به يموت في أرض غريبة وفي فقر مدقع، حتى لا يجد الناس ما يكفنونه به بعد موته إلا خميصة إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطوا به رجليه بدا رأسه.. في سبيل من كل هذا؟ إنه في سبيل الجنات، ورضا رب الأرض والسموات.
أبو سلمة بن عبد الأسد: مثال راق من التضحية لله ولدينه ولرسوله، ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. زوجته أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، لما أراد أن يهاجر أراد اصطحاب زوجته المؤمنة، وابنه سلمة الصغير معه.. فاجتمع عليه أصهاره، وقالوا: نفسك غلبتنا عليها، أما ابنتنا (يعنون زوجته) فلا والله لا نتركك تأخذها معك. وجاء أقاربه فقالوا: ونحن والله لا نترك ابننا (يعنون سلمة) معكم؛ ففرقوا بين الرجل وأسرته، ثم فرقوا بين المرأة وابنها، بعد أن تجاذبوه حتى خلعوا يده، وترك أبو سلمة كل ذلك وهاجر لله ولرسوله.
علي بن أبي طالب: ذاك الفدائي العظيم، يبيت في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، معرضا نفسه للقتل الذي ما منه بد في حالة علم المشركون وقدروا عليه، لكنها نفس ترخص في سبيل الدفاع عن الدين وعن رسوله.
يجود بالنفس إن ضن الجواد بها .. والجود بالنفس أقصى غاية الجود
صهيب الرومي: صاحب البشارة العظيمة، [ربح البيع أبا يحيى ربح البيع]، ذلك أنه عندما أراد الهجرة وعلم به المشركون وقفوا في طريقه وأرادوا أن يمنعوه من الهجرة، وقالوا: جئتنا صعلوكا لا مال لك، وتريد أن نتركك تهاجر بكل هذا المال؟ (وكان قد جمع مالا كثيرا بتجارته بالسيوف التي كان يصنعها ويبيعها).. فقال: إن تركت لكم المال تتركوني أهاجر؟ قالوا نعم. فدلهم على مكان المال، فأخذوا المال وتركوه؛ فهاجر. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع]. وأنزل الله فيه وفي أمثاله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد}.
وماذا نقول عن أبي بكر وعمر وغيرهما؟ وكل واحد من المهاجرين كانت له قصة فداء وتضحية في سبيل الله، خالصة صادقة لا رياء فيها ولا سمعة حتى شهد الله لهم جميعا بالصدق وابتغاء وجهه الكريم فقال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر:8)، بحسب “إسلام ويب”.
تضحيات الأنصار:
غير أنه مما يبهر العقل والقلب ويبعث على العجب كل العجب، أنه لم يقابل تضحيات المهاجرين في سبيل ربهم ودينهم ورسولهم إلا ما قام به الأنصار رضوان الله تعالى على الجميع. فقد ضربوا أعظم الأمثلة في الإيثار والمحبة والأخوة، ففتحوا لإخوانهم المهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بنفوسهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا في إكرامهم، وتقاسموا معهم أموالهم وطعامهم ودورهم وأرضهم، وآثروهم على أنفسهم، وأنفقوا عليهم مما رزقهم الله، وآتوهم المال على حبه، ولم يكن ثم أحد يجازيهم على فعالهم بأفضل مما أثنى الله به عليهم في كتابه العزيز، وخلد مآثرهم إلى يوم يبعث الناس لرب العالمين، فقال وهو العزيز الحكيم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر:9).
لقد علمنا الصحابة الكرام رضي الله عنهم أن التضحية والإيثار صفات أهل السبق والإيمان، وأن دين الله أغلى من كل شيء، وأن إقامة هذا الدين والتمكين له في الأرض لا يكون بالأماني، وأن النصر لا يتأتي للقاعدين الخاملين، وإنما النصر مقرون بالبذل والتضحية والفداء والعطاء.
إن حجم العداوات والتحديات التي يقابلها الإسلام وأهله في هذا الزمان تستوجب كثيرا من مثل هذه التضحيات، ولا يمكن تحرير المقدسات والذود عن الدين والعرض، والوطن والأرض بالخطب والمقالات والمؤتمرات والاجتماعات، ولكن بالاستعداد والإعداد، والجهد والجهاد، جهود صادقة، وتضحيات غالية، وعمل دؤوب يسترجع المفقود ويحقق المنشود {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}(الأنفال:60).
وحقيقة أخرى تتعلق بتلك الحقيقة الأولى، وهو أن التضحيات لا تضيع أبدا، وما بذل في سبيل الله لا يذهب سدى، فمن ضحى بالنفس يحوز الفردوس، ومن ضحى بالمال فالله يخلفه أضعافا مضاعفة، ومن ضحى بوقته بورك له في عمره، ومن بذل حياته لله رخيصة عوضه الله أحسن العوض {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(آل عمران:157).
ويبقى وعد الله لا يتخلف على مر الأعوام والأزمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(محمد:7).