قد يلجأ بعض الناس إلى إخفاء بعض الشعر الأبيض الذي يدل على كبر سنه من خلال صباغته بالأسود، ولطالما انتشرت هذه الشعرات القليلة التي قد يفزع لها الكثير منا نتيجة حرجه من أن يظهر عليه الكبر، فمفهوم الشيبة عند البعض يعد من الأشياء التي يبحث عن إخفائها، إلا أن الشيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان لها مفهوم أخر.
بين شيبتنا وشيبة النبي
شتان الفارق بين شَيبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشَيبتنا، فنحن نشيب، ويغزو الشعر الأبيض رؤوسنا، لتصاريف الدنيا الفانية، فنقول: “شَيبتنا الحياة أو الأبناء، أو الوظيفة، أو المعاش”.
قال الله تعالى: “ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً”. (الروم:54).
لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مفهوم مختلف تماما عن الشيبة يكشف فقهه.
فقد روى الترمذي عَنْ عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ، رضي الله عنهما، قالَ: قالَ أَبُو بَكْر، رضي الله عنه: “يَا رَسُولَ الله قَدْ شِبْتَ”. قالَ: “شَيّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلاَتُ، وعَمّ يَتَسَاءَلُونَ، وإِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ”..
فما الذي شيَّب الرسول، في “هود”، وتلك السور، قبل الأوان؟
يقول العلماء إن ما شيَّبه، صلى الله عليه وسلم؛ ما ورد في “هود” وأشباهها، من تلك السور، من أهوال يوم القيامة وشدائده، وأحوال الهالكين والمعذبين فيه، من مُكذِّبي الأنبياء، وقد وصفه الله تعالى بأنه يوم: “يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً”. (المزمل: 17).
وقيل إن الذي شيبه، صلى الله عليه وسلم، في سورة “هود”، قوله تعالى: “فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ”.(112).
قال ابن عباس، رضي الله عنهما: “مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في جميع القرآن، آية أَشَدُّ، وَلا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ”. (شرح النووي على مسلم).
وفسَّر ابن القيم ذلك في “مدارج السالكين”، فقال: “الذي شيَّبه، صلى الله عليه وسلم، من “هود”، هذه الآية: “فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ”؛ لأن الاستقامة لا تكون عن هوى، وإنما على حسب ما أُمرت، ولا يستطيع الإنسان أن يستقيم كما أُمر، إلا بعد أن يعلم بماذا أُمر، ثم بعد ذلك يستقيم عليه”.
وبجانب “هود” وأخواتها المذكورات، زيد، في ما شيَّب الرسول، في روايات أخرى، سور: “الحاقة وهل أتاك حديث الغاشية والقارعة، وسأل سائل، واقتربت الساعة”.
وعلى الرغم من أن المقصود من قوله، صلى الله عليه وسلم: “شيبتني” إسراع الشيب، والشعر الأبيض، إليه، إلا أن الترمذي روى من حديث أنس أنه قال: “ما عددتُ في رأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولحيته؛ إلا أربع عشرة شعرة بيضاء”.
وفي هذا قيل إنه ليس المراد بالشيب كثرة ظهور الشعر الأبيض، وإنما ظهور آثار الضعف عليه، صلى الله عليه وسلم، قبل أوان الكبر.
أما الاستقامة المذكورة، فهي لزوم طاعة الله تعالى، مع السداد والاعتدال، وتجنب الإفراط والتفريط.
وفي تعريفها قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: “الاستقامة معناها: عدم الميل أو الانحراف، ولو قيد شعرةٍ، وهذا أمر يصعب تحقيقه؛ لأن الفاصل بين الضدين، أو بين المتقابلين، هو أدق من الشعرة، في بعض الأحيان”.
والأمر هكذا، جعل الله تعالى لصاحب الاستقامة أكبر الثواب، وأعظم الثمرات، كسعة الرزق، والحياة الطيبة، والأجر الحسن؛ لذا أوصى بها رسول الله أصحابه.
قال الحافظ المناوي في شرح كتاب فيض القدير : . (شيبتني هود) أي سورة هود (وأخواتها) أي وأشباهها من السور التي فيها ذكر أهوال القيامة والعذاب والهموم والأحزان إذا تقاحمت على الإنسان أسرع إليه الشيب في غير أوان قال المتنبي: والهم يخترم الجسم نحافة *** ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم .
ولما فيها من ذكر الأمم وما حل بهم من عاجل بأس اللّه فأهل اليقين إذا تلوها انكشفت لهم من ملكه وسلطانه وبطشه وقهره ما تذهل منه النفوس ، وتشيب منه الرؤوس ، فلو ماتوا فزعاً لحق لهم لكن اللّه لطف بهم لإقامة الدين.
الفزع يورث الشيب
فالفزع يورث الشيب قبل موعده فهذه السورة اشتمل على الوعيد الهائل ، والهول الطائل الذي يفطر الأكباد ، ويذيب الأجساد قال تعالى : {يوماً يجعل الولدان شيباً} وإنما شابوا من الفزع.
وقال العلماء في (شيبتني هود وأخواتها) : لعل ذلك لما فيهن من التخويف الفظيع والوعيد الشديد لاشتمالهن مع قصرهنّ على حكاية أهوال الآخرة وعجائبها وفظائعها وأحوال الهالكين والمعذبين مع ما في بعضهن من الأمر بالاستقامة كما مر وهو من أصعب المقامات ، وهو كمقام الشكر إذ هو صرف العبد في كل ذرة ونفس جميع ما أنعم اللّه به عليه من حواسه الظاهرة والباطنة إلى ما خلق لأجله من عبادة ربه بما يليق بكل جارحة من جوارحه على الوجه الأكمل .
ولهذا لما قيل للمصطفى صلى اللّه عليه وسلم وقد أجهد نفسه بكثرة البكاء والخوف والضراعة: أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً.
فلمن أصابه الشَيب، جاءت البشرى من رسول الله. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “لا تنتفوا الشَيب، فإنه نور المسلم، من شاب شَيبة في الإسلام، كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعه بها درجة”.
قال المباركفوري في “التحفة”: “نهى عن نتف الشيب: أي الشعر الأبيض من اللحية أو الرأس، وقال: إنه نور المسلم: أي أن وقاره المانع من الغرور، بسبب انكسار النفس عن الشهوات والفتور؛ هو المؤدي إلى نور الأعمال الصالحة، فيصير نورا في قبره، ويسعى بين يديه في ظلمات حشره”.
وقال الشوكاني في “نيل الأوطار”: “التصريح بكتب الحسنة، ورفع الدرجة، وحط الخطيئة.. نداء بشرف الشيب، وأهله، وأنه من أسباب كثرة الأجور، وإيماء إلى أن الرغوب عنه بنتفه؛ رغوب عن المثوبة العظيمة”.