منذ تكليفه لتشكيل الحكومة وحتى مرحلة التأليف وصولاً إلى الثقة، كان الرئيس نجيب ميقاتي حاسماً وحازماً في مسألة أساسية تتمثل في إعادة لبنان إلى الحضنِ العربي مهما كلّف الأمر. وحتماً، فإن هذه الخطوة تُعتبرُ من أولويات الحكومة الحالية لاسيما أن التقارب مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي أمرٌ هام بالنسبة للبنان الذي كان يعيشُ عزلة دولية لسنوات عديدة.
ومن دون أدنى شك، فإنّ ميقاتي بزيارته إلى الإليزيه يوم الجمعة ولقائه مع الرئيس الفرنسي
إيمانويل ماكرون، استطاع أن يخرق جدار تلك العزلة، وأعادَ
لبنان إلى الطريق الدولية، وسط مطالبة البلدان الغربية بتنفيذ “خارطة طريق” مطلوبة وأساسيّة.
وبشكل أكيد، فإنّ الغرب بات حاسماً في قراره بشأن
لبنان: لا شيكات على بياض، ولا مساعدات من دون إصلاحات. وعملياً، فإن هذا الأمر كان واضحاً منذ العام 2017 حينما انطلقت الجهود المرتبطة بمؤتمر سيدر، والذي كان يشترطُ على المسؤولين اللبنانيين تنفيذ إصلاحات ومشاريع وبعدها يحصل
لبنان أموالٍ لقاء ذلك. وبناء على هذا الأمر، فإن الأساليب القديمة للدفع العشوائي لن تكونَ قائمة، وهذا ما أكد عليه ماكرون صراحة خلال مؤتمره الصحفي المشترك مع ميقاتي.
وفعلياً، فإنّ الأنظار تتجه اليوم إلى تبعات زيارة ميقاتي، خصوصاً أن الفرنسيين سيراقبون بشكل مباشر الخطة التي ستعمل الحكومة على أساسها، والرهان سيكون على الممارسات التي سيتم القيام بها والانجازات التي سيجري تحقيقها مثل الاصلاحات، وذلك تبعاً لبنود المبادرة الفرنسية.
هذا ما تريده دول الخليج من لُبنان
ومع انطلاقة الحكومة قبل نحو أسبوعين، بدأت الحملات المضادة ضد النهج الحكومي المتنامي، وراحت بعض الغرف السوداء تروّج لكلامٍ تشويهي يشيرُ إلى أن حكومة ميقاتي لن تستطيعَ الإنطلاق نحو العالم العربي. إلا أنه خلافاً لكل ذلك، فإنّ خطوط ميقاتي مع دول الخليج مفتوحة ولم تُقفل أبداً، حتى أنّ التواصل مع المسؤولين هناك قائمٌ ومستمر. كذلك، فإنه قد تكون لميقاتي زيارات قريبة إلى الدول الخليجية لحشد الدعم المعنوي أولاً
للبنان.
واليوم، فإنّ الحكومة الجديدة تقف أمام مهمّة التأكيد على حياد
لبنان أولاً والنأي بنفسه عن الصراعات الإقليمية ثانياً. وهنا، فإن ميقاتي سيسلك هذا الدرب مع حكومته باعتبار أن شخصيته موصوفة بالثقة والوسطية من قبل الدول الخليجية والغربية. ومع هذا، تقول مصادر سياسية لـ
“لبنان24” إن أزمة لبنان مع دول الخليج لا تنحصر فقط بالاطار السياسي، بل يتعدى الأمر إلى التمويل الذي كان لبنان يحصل عليه من الصناديق العربية ويتمّ هدره. ولذلك، فإن الدول الخليجية تريد أولاً أن يستعيد لبنان الثقة بنفسه وأن يكون سلوك الحكومة واضحاً من خلال الاصلاحات التي يُطالب بها الغرب. وفعلياً، فإن الدول الخليجية قد لا تمنح لبنان أي مساعدات خارجة من دون شروط واضحة وفاعلة أساسها توظيف هذه المساعدات في خدمة الشعب اللبناني أولاً بدلاً من تقاسمها بين الأطراف السياسية كما كان يحصل سابقاً.
ماذا عن السعودية؟
وحتماً، فإن ما يتبين أكثر هو أنّ السعودية لم تترك
لبنان خصوصاً أن النقاشات مع الفرنسيين والأميركيين خلال المرحلة السابقة أكّدت ذلك.
ومع هذا، فإن التقارب السعودي – الإيراني الذي ازداد وضوحاً خلال الأيام الماضية، كفيلٌ بوضعِ
لبنان على سكة الحل أكثر، حيث ستجري مناقشة الملفات الدسمة. واليوم، قد تكون السعودية حولت حديثها عن
لبنان باتجاه فرنسا وأميركا، ومن هناك ستتلقى بيروت أجوبة الرياض إلى حين الوصول لتسوية كُبرى. إلا أنه رغم ذلك، فإن الأكيد أن السعودية لا تريدُ نشوب أي صراع في
لبنان لأنها تدرك تركيبته السياسية والطائفية وقد كانت عرّاب اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية عام 1989.
كذلك، فإنّ المملكة تدعم المبادرات العربية اتجاه
لبنان خصوصاً الأردنية والمصرية، وهي لن تكون بعيدة عنها لاحقاً. وفي الوقت نفسه، تريدُ السعودية أن يكون
لبنان بلداً لا يشكل خطراً عليها من الناحية الأمنية، إذ تعتبر أن دور “حزب الله” في ذلك كان كبيراً. ومع هذا، فإن المملكة تريدُ أن يكون لدى الحكومة اللبنانية قرارٌ حاسم بمنع واحباط أي تحركات أو ممارسات تعود بالضرر عليها.
أما النقطة الجوهرية الخلافية بشأن دور “حزب الله”، فستكون مطروحة على طاولة التفاوض بين طهران والرياض وقد بدأت أوّل تجلياته تبرزُ مؤخراً بعدما بات خطاب التهدئة اتجاه المملكة بارزاً لدى الحزب. وبشكل أو بآخر، قد يكون ذلك جزءاً من المسار المرتجى، لكن المطلوب أكثر هو أن يعمد الأفرقاء السياسيين بما فيهم “حزب الله”، إلى دعم خيار العودة إلى الحضن العربي والالتزام بخطابٍ وممارسات لا تستعدي الدول العربية الأخرى.
وفي هذا الإطار، تقول مصادر “حزب الله” لـ“لبنان24” إنّه “لا مانع أبداً من تلقي المساعدات من أي دولة خليجية طالما أنه لا شيء يساهم في انتقاص السيادة”، وأضافت: “نحنُ مع الانفتاح على أي دولة باستثناء اسرائيل، وهذا الأمر محسوم بالنسبة لنا ولا يمكن الوقوف في وجهه لأن المجتمع اللبناني بات على حافة الهاوية والانقاذ مطلوب”.
وبناء على كلّ ذلك، فإن ميقاتي سيبني تحركاته المقبلة، وتقول الأوساط المتابعة للشأن الحكومي أن الأخير لا يريدُ حرق المراحل باعتبار أن العشوائية تضرّ أكثر مما تنفع، وهو يسعى لتحضير الأرضية المناسبة للانطلاق نحو العالم العربي وسط التقاط اشارات التسويات الخارجية القائمة حالياً، والتي سيتأثر بها
لبنان حُكماً.