كان الفقراء من الصحابة كلما رأوا أصحاب الأموال منهم ينفقون أموالهم فيما يحبه الله من الحج والاعتمار والجهاد في سبيل الله والعتق والصدقة والبر والصلة وغير ذلك من أنواع البر والطاعات والقربات حزنوا لما فاتهم من مشاركتهم في هذه الفضائل.
وقد ذكرهم الله في كتابه بذلك فقال تعالى: ” لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ”.
سبب نزولها:
نزلت هذه الآية بسبب قوم من فقراء المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى غزوة تبوك فطلبوا منه أن يحملهم فقال لهم: “لا أجد ما أحملكم عليه” فرجعوا وهم يبكون حزنا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مواعظ بليغة:
1-قال بعض العلماء: هذا والله بكاء الرجال بكوا على فقدهم رواحل يتحملون عليها إلى الموت في مواطن تراق فيها الدماء في سبيل الله وتنزع فيها رؤوس الرجال عن كواهلها بالسيوف فأما من بكى على فقد حظه من الدنيا وشهواته العاجلة فذلك شبيه ببكاء الأطفال والنساء على فقد حظوظهم العاجلة.
2- إنما يحسن البكاء والأسف على فوات الدرجات العلى والنعيم المقيم.
3- قال بعضهم: يرى رجل في الجنة يبكي فيسأل عن حاله فيقول: كانت لي نفس واحدة قتلت في سبيل الله ووددت أنه كانت لي نفوس كثيرة تقتل كلها في سبيله غزا قوم في سبيل الله فلما صافوا عدوهم واقتتلوا رأى كل واحد منهم زوجته من الحور قد فتحت بابا من السماء وهي تستدعي صاحبها إليها وتحثه على القتال فقتلوا كلهم إلا واحدا وكان كلما قتل منهم واحد غلق باب وغابت منه المرأة فأفلت آخرهم فأغلقت تلك المرأة الباب الباقي وقالت ما فاتك يا شقي؟ فكان يبكي على حاله إلى أن مات ولكنه أورثه ذلك طول الاجتهاد والحزن والأسف.
4- لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل: ” فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ”، .. ” سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”، فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية.
فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملا يعجز عنه خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له فيحزن لفوات سبقه فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها.
كما قال تعالى: “خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ” ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر فصار تنافسهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
5- قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
6- وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
7- وقال بعض السلف: لو أن رجلا سمع بأحد أطوع لله منه كان ينبغي له أن يحزنه ذلك.
8- وقال رجل لمالك بن دينار رأيت في المنام مناديا ينادي أيها الناس الرحيل الرحيل فما رأيت أحدا يرتحل إلا محمد بن واسع فصاح مالك وغشي عليه: ” وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ”.
9- وقال عمر بن عبد العزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة ليس السابق اليوم من سبق به بعيره إنما السابق من غفر له.